قرر الرجوع إلى بلده ليصبح الشرارة الصغيرة التى تكبر كل يوم لتحرق الإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس.. وليدخل التاريخ غير المزور من أنبل، وأرحب، أبوابه باسم المهاتما «غاندى».. (2 أكتوبر 1869 30 يناير 1947). إنه رسول اللاعنف.. صانع استقلال الهند جوهرة التاج البريطانى وباعث حسها القومى، بعد احتلال دام مائة وخمسين عاماً. كان «غاندى» منحدراً، من أسرة عرفت ب«تدينها الصارم».. لكنه فى كفاحه ضد الاحتلال وضد الفقر الأكثر صرامة فى وطنه قال: إذا أراد الله أن يؤمن به الناس، فى الهند فليظهر كرغيف من الخبز. وكم كانت مفاهيمه عن التدين خطرًا شديدا فى وطن كالهند مجزأ ومقسم بين سبعة أديان يقطنون واحدًا وعشرين ولاية وعددهم يقارب خمسمائة وخمسين مليون شخص يتكلمون ما يقارب من خمس عشرة لغة رسمية.. ماذا تفعل «المهاتما» الروح العظيم؟ أدرك غاندى أن بداية تحرير الهند من احتلال بريطانيا العظمى هى تحرير الهنود أنفسهم من التفرقة الدينية، والاجتماعية، والطائفية المتعصبة ضد بعضهم البعض، من المعروف أن الديانة الهندوكية تقسم المجتمع الهندى إلى نظام صارم من الطوائف حيث على القمة طائفة «البراهما».. والبراهما هو إله الخلق والكون لذلك فهى طبقة عليا يمثلها القائمون على الدين والفكر.. ثم نجد فى القاع، طائفة «التشودرا» حيث أصحاب المهن اليدوية المختلفة، وأصحاب الحرف العديدة ومن هذه الطائفة فى القاع، نشأت فئة «المنبوذين» التى تقوم ب أحط الأعمال فى نظر المجتمع الهندى مثل جمع القمامة، ولم جلود الحيوانات الميتة وذبحها.. وقد انعزل «المنبوذون» فى مكان مخصص لهم. لا يشربون إلا من بئر خاص.. ولا يلمسون الآخرين، ويتم استغلالهم فى جميع الانتهاكات المستباحة وبالطبع طبقاً لنظام الطوائف لا يتم التزاوج بين طائفتين مختلفتين ولا يحق لإنسان تغيير طائفته إلى أن يموت ومن نظام الطوائف هذا cast systems نشأ النظام الطبقى . class system ثار «غاندى» على هذا الموروث الدينى الهندوكى.. وقام بثورة لا تعرف التكتيك والخطط قصيرة المدى.. وحجج الخائفين وفتاوى رجال الدين وتهديداتهم. وكانت الثورة هى أن قام «غاندى» ب تزويج رجل وامرأة ينتمى كل منهما إلى طائفتين مختلفتين بل من أكثر الطوائف بعداً طائفة «البراهما» قمة المجتمع الهندى وطائفة المنبوذين قاع المجتمع الهندى، وكانت هذه هى المرة الأولى فى تاريخ الديانة الهندوكية التى يحدث فيها هذا الاحتجاج الجذرى العملى.. بل أطلق «غاندى» على «المنبوذين» اسم هاريجان أى أطفال الله قال «غاندى»: كيف نعترض على معاملة بريطانيا لنا على أننا منبوذون ونحن نعامل أهلنا المعاملة نفسها؟ 20% من الشعب الهندى من «المنبوذين». إن الكتابة عن «غاندى» تشبه الغوص فى محيط عميق.. لا نعرف أين يبدأ ولا نهاية له. كتب «غاندى» «حياتى هى رسالتى» وقد توحدت حياته ورسالته فى قضية واحدة استغرقته وأنهكت جسمه النحيل المستور بأقل القماش، وهى قضية تحرير الهند. لقد اعتقل «غاندى» عدة مرات.. وأضرب عن الأكل مرات كثيرة لكن المرة الشهيرة حين يئس الهنود من فلسفته عن اللاعنف، قاموا بفتح النار على الجنود.. أضرب عن الأكل حتى كاد أن يموت. فقد آمن غاندى أن اللاعنف سياسة القوى المتحضر، المؤمن بقضيته.. أما سياسة العنف فهى تعبر عن التوحش، والعجز، والسلبية. قال غاندى: سوف نخرج الإنجليز من الهند بكامل اختيارهم واقتناعهم.. ولن يحدث ذلك إلا بالتمسك باللاعنف الذى هو قمة الثورة وسوف يحب الإنجليز خروجهم من الهند ويعتبرونه قمة الحكمة. وهناك مرة أخرى كان إضرابه عن الطعام طويلاً لحدوث فتنة طائفية وكان هذا أصعب ما يخشاه ولم ينه إضرابه حتى تصالح المتعصبون دينياً واستمعوا إلى حكمة غاندى «هذا مايريده الإنجليز» أكثر ما يبهرنى فى سيرة «غاندى» ما سمى ب مسيرة الملح فى 12 مارس 1930 .. فى ذلك اليوم خرج «غاندى» من مدينته أحمد أباد فى ولاية غوجارت سائراً على القدمين إلى قرية داندى فى مقاطعة سوارت وقد قطع عهداً ألا يعود إلا بعد تحرير الهند. بدأ السير مع تسعة وسبعين من أتباعه وحين وصل إلى محيط العرب فى سوارت كان قد مشى يوماً كاملاً قاطعاً خمسمائة كيلو متر. وعلى طول الطريق تحول الجمع الصغير المؤمن باللاعنف، أو العصيان المدنى إلى الآلاف من الهنود فى المدن وفى القرى احتجاجاً على احتلال بريطانيا وعند الشاطىء توقف «غاندى» وتوقف معه الزحف الهندى الضخم. توجه إلى تلال الملح القريبة.. رفع بعض الملح إلى أعلى ثم تركه يتساقط مصاحباً بالهتافات الرعدية. فقد فهم آلاف الهنود رسالة «غاندى» من هذه الحركة البسيطة. إنه احتجاج غاضب لن يردع ضد احتكار الإدارة الإنجليزية للملح، وفرضها ضرائب باهظة على تداوله. لكن لماذا الملح؟ أدرك «غاندى» أنه أفضل توحيد للخمسمائة وخمسين مليونا من الهنود. فأفقر الفقراء، الذى لا يتناول إلا كسرة من الخبز يحتاج إلى بعض من الملح وليس هناك جسم يستطيع الاستغناء عن الملح ولهذا أطلق هذا الزحف التاريخى: نمك ساتياجراها.. نمك يعنى ملح.. ساتياجراها تعنى الإصرار على الحقيقة دون عنف. وكان «غاندى» محقاً.. فالملح تاريخياً كان سلعة ثمينة وكان فى بعض البلاد يستبدل به الذهب أوقية أوقية.. وفى الصين اعتادوا على استخدام عملات مصنوعة من الملح وفى عدة دول كما حدث فى الهند فرضت عليه ضرائب باهظة وتم احتكاره لصالح الملوك، والأمراء.. ولم يتم إلغاء احتكار الملح إلا بعد سفك الدماء وما أطلق عليها ثورات الملح.. وقد نجح «غاندى» بسياسة اللاعنف وسياسة إحياء الصناعات القديمة والحرف التقليدية الهندية والعودة إلى النول اليدوى للغزل لأنه أدرك أن الاستقلال السياسى للهند لن يتحقق طالما أن الهند تصدر إنتاجها الزراعى كمادة خام ثم تشترى المنتجات الإنجليزية الجاهزة ولهذا دعا الهنود إلى الامتناع عن استخدام الأقمشة الإنجليزية. وهكذا أصبح «النول» اليدوى رمزاً للتحرر فى الهند ومفتاحاً لانعدام الحكمة من استعمار الهند من قبل بريطانيا التى كانت تندهش كل يوم ماذا تفعل.. وكيف يجدى السلاح فى مواجهة الملايين من الهنود الذين يسلمون أنفسهم ولا يستخدمون العنف والضرب والسلاح وإنما يمتنعون عن شراء أقمشتها الجاهزة؟! يوم 30 يناير 1948 اغتيل المناضل أو الفيلسوف الذى ضل طريقه إلى السياسة مهنداس كارا ماشند غاندى فى حديقة «بيت بيرلا» فى نيودلهى حيث كان يصلى مع آلاف المصلين وبعد استقلال الهند بأقل من سنة (فى 15 أغسطس 1947) وذلك برصاصة هندية متعصبة... وهو الرجل الذى كافح من أجل اللاتعصب واللاعنف.. على الأخص ذلك الذى يحدث باسم الدين. ؟ من مأثورات «غاندى» النبيلة»: - لا تستطيع أن تساعد الناس حقاً إلا إذا عشت مثلهم.. ساعد الناس على أن يفعلوا الأشياء بأنفسهم وأن يكتشفوا إمكانياتهم.. لا تحل محلهم. - السعادة هى أن يتناغم ما نقول مع ما نفعل مع ما نحلم به. إذا خيرت بين الحق، والهند سأختار الحق. - لو لم أمتلك القدرة على المرح وعلى السخرية لهزمتنى أول معركة. - أيها الهنود.. أنا إنسان مثلكم.. لا تعاملونى كإله، أو إنسان لديه قدرات خارقة.. ولا تحولونى إلى تعويذة تجلب لكم الحظ السعيد.. حظكم هو فعلكم. - لا أومن بأى فكرة دينية تناقض عقلى وتفكيرى المنحاز للعدل والحكمة والحرية. - كم يسعدنى الاعتقال حتى يتأكد الهنود إننى إنسان عادى مثلهم. - لست أطلق على بريطانيا، كلمة «العدو» لكننى أعتبرها صديقة ضلت طريق الحكمة فمارست الظلم والقمع والاحتلال. - الجسد ليس وعاء للطعام والشراب والمتع الحسية.. لكنه أداة ثورية.. ورمز للاحتجاج ووسيلة لإعلان الغضب.. لذلك فأنا بحياتى عشرات الإضرابات التى جعلت الموت صديقى. - الذى يعفو أرقى من الذى ينتقم. - السلام أرقى من الحرب. - نحن موجودون على الأرض بسبب النساء.. فلا تسيئو معاملتهن أيها الرجال. - الحقد يستنزف طاقتنا.. ويجعلنا عبيدًا لغريزة شريرة.. همجية.. لا حق لنا فى ممارستها. - اللاعنف سياستى.. والتواضع فلسفتى..والهند الحرة غايتى.. - لا تيأس من الحياة رغم مآسيها.. ففى النهاية لا يتسخ البحر لمجرد قطرات ملوثة من الماء.. من دعابات «غاندى» الساخرة.. لكنها السخرية اللاذعة التى تفضح الفساد والظلم والكذب أكثر من مئات المجلدات.. سخرية جميلة تعرى القبح. دعابة شهيرة حين دعى «غاندى» لحفل استقبال فى قصر الإمبراطورية البريطانية.. وذهب كما هو يرتدى دائماً الثوب الأبيض الذى يكشف جسمه النحيل أكثر مما يستره سأله أحد المدعوين الإنجليز باستنكار: أهذه ملابس تناسب لقاء الملك؟ بابتسامة هادئة ودودة رد «غاندى»: اطمئن يا صديقى فالملك يرتدى من الملابس ما يكفينى ويكفيك ويكفى كل المدعوين. حينما سافرت أول مرة كانت رحلتى إلى «الهند» حينما ركبت طائرة أول مرة كانت الخطوط الجوية الهندية حينما تأثرت بحياة زعيم حينما أحببت كلمات الحكمة والتفلسف حينما ارتفعت إنسانيتى حينما زاد تواضعى كان بفضل «غاندى»، «غاندى» الذى أعطى النموذج لصدق الزعامة فكانت حياته أبسط من البساطة.. متقشفة أكثر من حياة أفقر الفقراء فى الهند.. فلم يملك من هذه الدنيا الفانية إلا كوخًا صغيرًا بسيطًا هو الذى صنعه بنفسه على نهر «السابارماتى» يتغذى على لبن المعزة التى تنطلق بجانب الكوخ ويكمل الوجبة بقليل من الأرز والليمون، والتمر لا يشرب الكحوليات، أو الشاى، أو القهوة.. لا يقتنى إلا ثوباً أبيض من القطن الهندى ونظارته الشهيرة.. صندلاً.. مكتبًا بسيطًا.. دواية حبر.. ريشة إناءين من الفخار.. طبقًا من المعدن.. ثلاث ملاعق بأحجام مختلفة.. سكينًا.. نولاً يدويًا.. العصا التى تساعده على المشى والحركة.. وردة حمراء فى كوب ماء.. حينما سألتهم فى الهند خلال رحلتى التى استغرقت ثلاثة شهور: لماذا كل هذا التقشف؟ أجابت امرأة أسمت ابنها غاندى، كان متقشفاً مع النساء فلم يتزوج غير زوجته وكان متقشفاً مع نمط حياته لأنه كان يردد دائماً: - الفقر موجود لأننا نأخذ أكثر من حاجتنا لا أستطيع أن أكافح الفقر فى وطن غالبيته لا يجد قوت يومه ولا أجرؤ على إلقاء خطبة، عن القيم النبيلة وعن العدالة، وعدم التفرقة والمساواة بينما أعيش حياة الأثرياء فى بلد يدميه ملايين الفقراء. اليوم السبت 2 أكتوبر 2010 تكون الذكرى المائة وواحد وأربعين لميلاد «غاندى» كيف لا أتذكره؟ وكيف لا أكتب من إلهام حياته، وهو الذى بتواضعه وتقشفه، والتحامه الحميم العضوى بقضيته، وبالزهد فى مغريات الحياة الفاسدة، أضاء الكثير من دروب فكرى، ومسيرتى؟!! من بستان قصائدى على استحياء وعلى حذر تقترب نسائم الشهر العاشر فهى تدرك أنها سبب مأساتى النازفة وذكرى الحظ العاثر.