يوسف زيدان مع ابنته مى في هذا الباب نكشف القناع عن الوجه الآخر للشخصيات التي اعتدنا رؤيتها في ثوب واحد .. نتعرف علي الأفكار والهوايات وتفاصيل الحياة الطبيعية التي تختفي خلف أقنعة المنصب .. أو خلف الظروف التي تفرضها طبيعة العمل . أمي تكبرني ب 14 عاما والعلاقة بيننا غير نمطية وسط جدران زرقاء تذكره ببحر الأسكندرية.. وعلي أنغام موتسارت أو عود الثلاثي جبران.. يعيش الكاتب والروائي الكبير يوسف زيدان.. يجمع كاتبنا الكبير بين موهبة المبدع وصبر وإصرار الباحث .. يري أننا تنازلنا عن نعمة التفكير.. ففقدنا الرؤية والمنطق.. ولبسنا لباس العنف والغل .. يحلم بالوصول بالكتابة العربية لسقف البلاغة.. وبإعادة بناء المفاهيم العامة في العقل المصري والعربي المعاصر.. ويحلم أيضا.. برحيل هادئ.. مشتاقا للعبور إلي النهار.. بعيدا عن الظلام . ............................. ؟ أبي من عائلة ثرية بسوهاج.. وأمي من الأسكندرية.. ولدت في سوهاج.. لكني هجرتها للأسكندرية رضيعا علي كتف جدتي.. وكان الانتقال هو عاقبة خلاف بين جدي لأبي وجدي لأمي..» الاتنين..كانوا جبارين» جدي لأبي ثري يملك الأراضي الواسعة.. ويستقبل في بيته الكبار.. أما جدي لأمي.. فكان جبارا بطريقة أخري.. كان تاجرا يعيش في منطقة شعبية بالأسكندرية.. محاطا بعزوة من أبنائه وأقاربه.. واتفق الاثنان بعد خلافهما أن أعيش مع عائلة أمي بالأسكندرية.. وألا أزور الصعيد إلا مع دخولي الجامعة.. «يعني يعملوها الكبار.. ويقعوا فيها الصغار» . ............................. ؟ لم يكن لأبي تأثير كبير في حياتي.. كان يأتيني في الأسكندرية زائرا فقط.. وقد تزوج ست مرات.. وأنجب 12 طفلا.. أما أمي فعلاقتي بها غير نمطية.. فقد أنجبتني وهي طفلة عمرها 14 عاما.. ونتيجة خلافاتها مع أبي أخذتني جدتي للأسكندرية.. ثم وقع الطلاق بين أبي وأمي.. وعادت أمي بأخي الأصغر ليعيشا معنا في الأسكندرية.. وبعدها تعرض أبي لأزمات جعلته يزهد كل شئ.. ويميل للتصوف.. حتي مات وهو في بداية الخمسينات. ............................. ؟ كنت طفلا هادئا أسرح كثيرا.. ولا ألعب مع الصغار.. لم أشعر بمعاناة لانفصال أبي وأمي.. فعائلة أمي الكبيرة كانت عوضا لي.. معاناتي الوحيدة كانت بسبب صخب الحي الشعبي الذي أعيش به.. لكني استطعت أن أصنع لنفسي عالما خاصا من خلال حبي للقراءة والكتابة ..»تصوري من شدة حبي للكتابة.. كنت أعيد كتابة الواجبات المدرسية يوميا لحد نهاية الكراسة.. لدرجة أن أبلة أمينة مدرسة العربي.. أعفتني من الواجبات!».. ............................. ؟ كنت محظوظا باهتمام جدي.. حيث ألحقني بمدرسة خاصة.. وكان يشجعني علي القراءة.. ونظرا لصغر سن أمي.. كانت جدتي وعمتي هما الصورة الأقرب للأم في ذهني.. وكان أخوالي هم الأقرب لدور الأب.. وكان أحدهم أديبا.. أسهم بدرجة كبيرة في تنشئتي الأولي وإمدادي بالكتب.. وحينما انتقل للعمل في القاهرة.. فقدت المرجعية.. وكان عليّ تكوين أفكاري منفردا . ............................. ؟ في الصف الأول الإعدادي قرأت أعمال شكسبير.. ثم جذبتني أشعار محمود درويش.. وانبهرت بقدرة اللغة الشعرية علي التعبير والإيحاء بصورة خيالية ذات أفق أوسع. وفي المرحلة الثانوية اتجهت أغلب قراءاتي للفلسفة.. وكنت معجبا بالفيلسوف نيتشه وتعبيراته البليغة وصوره المركبة والجريئة في رواياته. ............................. ؟ في السنة الجامعية الأولي.. جاء أبي لاصطحابي إلي قريتي بسوهاج لأول مرة تنفيذا لاتفاق أجدادي.. خرجنا من الأسكندرية أول أيام رمضان.. لنصل سوهاج أول أيام العيد!! فقد أراد والدي الذي كان يعيش حالة التصوف.. أن تتضمن الرحلة زيارات لأولياء الله الصالحين بمختلف المحافظات.. كنت رافضا لكل هذه المظاهر لتشبعي بأفكار نيتشه.. ولكني صادفت في الرحلة موقفا غريبا غير أفكاري.. فقد قابلت في الأسكندرية أحد شيوخ الصوفية.. وفوجئت به يقول لأبي: ابنك سيكون سفيرا.. فاعترضت ساخرا: أنا أدرس الفلسفة.. فكيف أكون سفيرا.. وتجاهلت الرجل وسرحت في أفكار الفلاسفة شوبنهاور ونيتشه.. فلما وصلنا الصعيد.. قابلت الشيخ الصوفي عبد الحليم ودنان.. وفوجئت به يسألني عن شيخ الأسكندرية.. فأجبته بأنه لا يفهم شيئا.. فرد ساخرا: أنت الذي لا تفهم.. فكلمة سفير مشتقة من السفر أي الكتاب.. وأنت ستظل مشغولا بالكتب طيلة حياتك.. ومن وقتها بدأت ألتفت للصوفية. ............................. ؟ لم تكن الدراسة تشكل لي أي مشكلة.. نظرا لقدرتي علي استرجاع أي شئ أقرأه.. بالإضافة لثقافتي ورؤيتي الخاصة.. وانعكس هذا عليَّ سلبا وإيجابا.. ففي امتحانات الجامعة كنت أكتب رؤيتي.. حتي وإن اختلفت مع رؤية أساتذتي.. وكان بعض الأساتذة يتقبل ذلك.. وبعضهم يرفضه.. مما أدي لرسوبي في إحدي المواد بالسنة الأولي.. لكن أحد أساتذتي نصحني: «اكتب كلام المنهج.. لو عايز تنجح وتكمل دراساتك العليا.. وفعلا نفذت النصيحة.. واتخرجت وبدأت دراساتي العليا». ............................. ؟ تعمقت علاقتي بالصوفية مع شاعر الصوفية ابن الفارض الذي وقعت أشعاره في قلبي موقعا خاصا.. وفي سن 22 عاما نشرت كتابي الأول «المقدمة في التصوف».. ثم اكتملت علاقتي بالصوفية بالتأمل والدراسة.. فأعددت الماجستير عن الصوفي عبد الكريم الجيلي.. ثم الدكتوراه وعمري 29 عاما عن الإمام عبد القادر الجيلاني.. ثم تعرضت لمؤامرة خسيسة في جامعة الأسكندرية.. فتم إلغاء قرار تعييني.. فقررت التقدم للحصول علي الأستاذية في الفلسفة من جامعة أخري.. هي جامعة قناة السويس.. وحصلت عليها وعمري 39 عاما.. لأكون أصغر من حصل عليها.. وبجدارة أيضا.. حيث تقدمت للترقية بأحد عشر كتابا.. بينما المطلوب أربعة.. وعدت للجامعة بشهادة رسمية.. لكني شعرت أنني استعدت حقي ولم أعد أريد الاستمرار.. وفي يوم تعييني بجامعة قناة السويس.. سحبت أوراقي وقررت التفرغ للكتابة.. ............................. ؟ عملت مستشارا لمكتبة الأسكندرية منذ عام 1994.. وفي عام 2000 صرت مديرا لمركز ومتحف المخطوطات.. حتي استقلت 2012 بعدما فقدت ثقتي في المؤسسات ونشرت استقالتي في ثلاثة مقالات بالصحف ومن يومها اكتفيت بالكتابة.. وأصبحت نادرا ما أخرج من منزلي.. وأقضي كل وقتي في الكتابة.. أكتب في كل الأوقات.. وأستمع للموسيقي من الكلاسيكيات الغربية أو العود الشرقي.. كما أتابع كبار مخرجي السينما العالمية . ............................. ؟ تزوجت أول مرة وعمري 25 عاما من زميلتي بالدراسات العليا.. استمر زواجنا 15عاما.. وأثمر 3 أبناء.. علاء وآية ومي.. أما زواجي الثاني فاستمر 3 شهور.. وكنت وقتها في نهاية الأربعينات.. وبعد فشلي في المرتين.. فضلت البقاء منفردا.. ربما ليأسي في تحقيق ما كنت أحلم به.. أو لأن الكتابة تحتاج إلي صفاء ذهني وإلي الاحتفاظ بمسافة كافية بيني وبين صخب الحياة حتي أستطيع النظر إليها بشكل أوضح . ............................. ؟ ابني علاء هو الآن أقرب أصدقائي.. ونشأته اختلفت عن نشأتي.. فقد توليت تربيته بالكامل ذهنيا وفكريا وتعليميا وتثقيفيا.. ورغم حبه للشعر.. فقد اختار العمل مهندسا.. وابنتي «آية» أيضا تدرس الهندسة.. أما «مي» ففي الصف الأول الثانوي. ............................. ؟ أحلم بالوصول بالكتابة العربية إلي سقف البلاغة الأعلي.. وإعادة بناء المفاهيم العامة في العقل المصري والعربي المعاصر.. لأنها المتحكم في السلوك العام .. وعلي المستوي الشخصي.. أحلم برحيل هادئ.. وأري الذين يرحلون.. يتركون الحقد والعنف والفوضي.. فيعبرون للنهار ويتركونني وحدي في الظلام..... إلي حين .