كانت المقاطعة الغالبة متوقعة بخطاب الرئيس أو بدونه، فقد كان المصريون قد اتخذوا قرارهم، وأداروا ظهورهم لانتخابات عبثية تماما عندما يتكلم الشعب المصري، فلابد أن تصمت أصوات «الجهالة» و«الهرتلة»، ومحاولات التهوين البائس من دلالة ما جري في المرحلة الأولي للانتخابات البرلمانية، وهو ما سيجري مثله في المرحلة الثانية، فلم يكن الأمر مجرد مقاطعة تلقائية واسعة، ضمت ثلاثة أرباع الناخبين، بل كانت عملية عصيان مدني علي طريقة «خليك في البيت»، شاركت بها عشرات الملايين من الناس، وهي ذات الملايين التي خرجت في 30 يونيو لإزاحة حكم الإخوان، وتركت اللجان الانتخابية خاوية هذه المرة، وبهدف إسقاط أي اعتبار أو شرعية لبرلمان الفلول المقبل. ولم تكن المقاطعة التلقائية الفريدة استجابة لنداء الإخوان، فقد صار تأثير الإخوان صفريا في مصر، صاروا شيئا علي هامش الهامش، وحلت عليهم لعنة الانزواء والانكفاء، ولحقت لعنتهم بمن يشبههم في الهيئة أو السلوك أو الشعار، وهو ما يفسر ما جري من إفناء لحزب النور السلفي، وقد توقعنا قبل الانتخابات أن «يخسر حزب النور الجلد والسقط»، وهو ما جري بالحرف، فلم يكن وجوده مقنعا لجذب فئات منعزلة من الناخبين، تماما كما لم يكن غياب الإخوان سببا في الغياب الدرامي للناخبين، فقد جري استفتاء دستوري لحقته انتخابات رئاسية بعد ذهاب الإخوان، وكانت نسب التصويت مطردة في الزيادة، وأقبل المصريون علي استفتاء الدستور الجديد بنسبة جاوزت 38٪، بينما كانت نسبة التصويت في استفتاء دستور الإخوان في حدود 32٪، وقاربت نسبة التصويت في انتخابات رئاسة السيسي حاجز الخمسين بالمئة، بينما كانت نسبة التصويت في جولة إعادة مرسي وشفيق أواسط 2012 في حدود 46٪، أي أن غياب الإخوان زاد نسب التصويت في استفتاء الدستور وانتخابات الرئاسة، ولو جرت الانتخابات الحالية بالنظام النسبي، لتضاعفت نسبة التصويت كما جري في انتخابات أول برلمان بعد الثورة، بينما لا شئ يشبه ما جري في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، سوي انتخابات مجلس الشوري التي جرت عام 2012 في عز صعود الإخوان، ونزلت فيها نسب التصويت من 5.12٪ في المرحلة الأولي إلي 5.7٪ في المرحلة الثانية. ولم تكن المقاطعة الواسعة استفتاء بالمعني الدقيق علي شعبية السيسي شخصيا، وإن بدت كذلك بالمصادفة التعيسة، وبسبب الغلطة الفاحشة التي ورطت الرئيس في خطاب صبيحة الانتخابات البرلمانية يوم السبت الأسود، وكان من حسن الفطن أن يبتعد عن القصة كلها، وألا يلقي خطابا في التوقيت القاتل، دعا فيه الناس إلي النزول حشودا فلم ينزل أحد تقريبا، وهو ما بدا بتتابع الحوادث كأنه جواب الناس علي نداء الرئيس، بينما كانت المقاطعة الغالبة متوقعة بخطاب الرئيس أو بدونه، فقد كان المصريون قد اتخذوا قرارهم، وأداروا ظهورهم لانتخابات عبثية تماما، خلت بالجملة من فرص الاختيار، وتشابه فيها «زيد» مع «عبيد» و«نطاط الحيط»، وبدا المرشحون - باستثناءات نادرة- فلولا بامتياز، وبدت الطبخة كلها مسمومة، لا اختيار فيها سوي بين الفلول والفلول بشرطة، فقد كان نصف عدد المرشحين أعضاء رسميين في حزب المخلوع المنحل، والنصف الآخر من العينة البينة ذاتها، وكانت النتيجة مع أي اختيار هي ذاتها، وبصرف النظر عن الأقنعة الحزبية المفتعلة، وهو ما يفسر العزوف شبه الجماعي للناخبين، فلم تقم في مصر ثورتان وبخلع رئيسين، حتي نعود إلي نقطة الصفر إياها من جديد، ويعود الذي كان حاكما غاصبا سارقا أواخر أيام المخلوع مبارك. ولم تكن من مفاجأة تذكر في القصة كلها، فقد تحققت توقعاتنا بالحرف والفاصلة والنقطة، قلنا قبل الانتخابات إن نسبة التصويت لن تزيد علي 25٪، وجاءت النتيجة الرسمية المعلنة في حدود 26٪، وقلنا إن الإعادات ستكون غالبة، ولم ينجح في الجولة الأولي سوي أربعة، والباقون في الملاحق، وتوقعنا كثرة مهولة في الأصوات الباطلة، بسبب تعقيدات قانون الانتخابات وفانتازيا تقسيم الدوائر، وتحقق ما قلناه، ووصلت نسبة التصويت الباطل إلي قرابة العشرة بالمئة، وقد أخذنا في حسابنا قبل الانتخابات، ما يجري في العادة مع مهازل النظام الفردي، وحيث تبرز أدوار ودواعي المال والبلطجة والعصبيات العائلية والقرابات الطائفية، وهو ما جري بالحرف في عملية شراء الأصوات المحمومة، وفي ظواهر النقل الجماعي والتصويت الجماعي في الريف والأحياء العشوائية بالذات، بينما انحسر الإقبال في مناطق المدن الأكثر وعيا، ولولا طرق جلب الناخبين اصطناعيا بالرشاوي وغيرها، لكانت نسبة التصويت قريبة جدا من حافة الصفر. والمحصلة ظاهرة، ومع كامل الاحترام لأقلية الناخبين الذين ذهبوا لصناديق التصويت، فنحن بصدد «ميني برلمان» انتخبه «ميني شعب»، أو»ميكرو برلمان» انتخبه «ميكرو شعب» في الإعادة، وبصدد برلمان عاجز خلقيا عن النهوض بصلاحياته الدستورية، ومفتقر تماما لمعني الشرعية ومعني تمثيل الشعب، فهو لا يمثل مع تكرار الإعادات سوي أقلية الأقلية، لا يمثل حسابيا سوي 2٪ من الشعب المصري، وهذه كارثة كاملة الأوصاف، تقسم البلد إلي شعبين، شعب أصغر جدا يحتكر البرلمان، وشعب أكبر جدا بلا برلمان، وهو تناقض لن يحل بغير حل البرلمان المهين، وإلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فسوف تتفاقم أزمة سياسية واجتماعية منذرة بالخطر، تزيد من فوضي السلطة الراهنة، ومن أحوال المتاهة، ومن سفور سيطرة فلول النظام القديم علي الحكومة فالبرلمان، بينما الرئيس يبدو محاصرا، ومترددا في اتخاذ القرارات المناسبة، وفي خوض حرب تطهير شاملة لكنس الفساد واستعادة حقوق الشعب المنهوبة، وتصفية سيطرة رأس المال ومليارديرات النهب والبيروقراطية الفاسدة علي الحكم، وتغيير الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحازة ضد الفقراء والطبقات الوسطي، وفتح المجال السياسي، وإخلاء سبيل آلاف الشباب المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب، و»جبر ضرر» الضحايا بغير تمييز ولا استثناء، ونحسب أن المقاطعة التلقائية الواسعة كانت رسالة غضب للسيسي، تطالبه أن يقرر ويفعل الآن قبل فوات الأوان.