ليست المشكلة فى موعد إجراء الانتخابات البرلمانية المصرية، والمقرر لها أن تتم بنهاية العام الجارى 2014، أو فى أوائل 2015. وكثير من الدعاوى التى تساق لطلب التأجيل لا محل لها من الإعراب، ولعل أشهرها حجة أو دعوى الظروف الأمنية غير المناسبة، وتلك دعوى عظيمة الشذوذ، وتخالف ما هو محسوس من تحسن الوضع الأمنى بصورة مطردة، وتراجع العمليات الإرهابية الكبرى، والتفكيك المنتظم لخلايا الإرهاب الصغيرة، وانحسار المواجهات الساخنة إلى منطقة محدودة شمال شرق سيناء، وتنامى مؤشرات رد اعتبار الدولة الأمنية، والتى كانت أضعف كثيرا فى وقت الاستحقاقات الانتخابية التى تلت ثورة 25 يناير 2011، ومع ذلك جرت كل الاستحقاقات فى بيئة أمنية مثالية... ولم يتوقف أو يتعطل الاقتراع فى أى لجنة فرعية بسبب حادث أمنى، وثبتت الكفاءة التامة لقوات الجيش فى السيطرة السلسلة الاحترافية، رغم تصاعد التهديدات الإرهابية بعد موجة 30 يونيو 2013، وجرى استفتاء الدستور، وبعده انتخابات الرئاسة، فى المواعيد المقررة، ودون حوادث أمنية تخدش الصورة على مدى أيام طويلة متصلة، ولا يتوقع أن يختلف الحال كثيرا مع إجراء انتخابات البرلمان فى أى وقت، خصوصا أن انتخابات البرلمان تجرى على مراحل جغرافية، وعلى مدى أسابيع، وبما يقلل الحاجة إلى استنفار أمنى كامل فى عموم البلد. إذن، فالدعوى الأمنية ساقطة، وإن بدت التخوفات مشروعة من موارد أخرى، وعلى طريقة التخوفات السياسية لا الأمنية، وتلك تخوفات لا يؤثر فيها التأجيل المقترح، حتى لو كان لسنة كاملة، فقد لا يتخوف أحد من تزوير إجراءات التصويت، وتلك قصة سخيفة سقطت إلى الأبد مع خلع مبارك، ولم تتكرر أبدا بعد ثورة يناير، وموجة يونيو، اللهم إلا فى حدود مخالفات متناثرة يجرى تصحيحها، وبما يتطابق مع المعايير الدولية لنزاهة الإجراءات الانتخابية، وفى ظل متابعة لصيقة لمنظمات مصرية وعربية وإفريقية ودولية. نعم، التخوفات السياسية قائمة ومشروعة وفى محلها، ولا تتعلق بالظروف الأمنية، ولا بشبهة احتمالات تزوير التصويت، ولا بالتأجيل ولا بالتعجيل، بل فى توقع صورة تشكيل البرلمان المقبل، والتى لن تتغير كثيرا مع تأجيل الانتخابات لشهور، ولأسباب مرئية جدا، وتتعلق بالحالة السياسية لا الأمنية، وبموازين القوى المتحركة أو المتربصة على المسرح، وبالنظام الانتخابى العجيب الذى جرى إقراره، وبالعوامل المؤثرة على تصويت الناخبين، والتى تحتمل إكراها وتزويرا فى إرادة التصويت لا فى إجراءاته. فلن يكون البرلمان المقبل قولا واحدا برلمانا للثورة، تماما كما لم يكن برلمان الأكثرية الإخوانية المنحل برلمان الثورة، وكلها مما قد يصح وصفه ببرلمانات جاءت بعد الثورة، ووظيفتها إعاقة الثورة، ليس لتزوير جرى أو سيجرى فى إجراءات التصويت، لم ولن يحدث، بل لتزوير حدث وقد يحدث، فى إرادة التصويت، سواء بالإكراه الدينى على طريقة الإخوان والسلفيين، أو بالإكراه الاقتصادى على طريقة فلول جماعة مبارك ومن يشايعها، وقد اختفى أو تضاءل تأثير الإكراه الدينى بعد إزاحة الشعب لحكم الإخوان، وانكشاف حقيقة التنظيم الإخوانى كقوة مضادة للثورة، وهو ما أفسح المجال ليس لقوى الثورة، بل لقوى الثورة المضادة الأخرى، على طريقة جماعة الفلول وأخواتها، ولسبب جوهرى كامن فى بنية الثورة وبنية البلد، انتهى إلى التناقض المرعب بين مشهد الثورة ومشهد السياسة، مشهد الثورة يخلع القلب فرحا، ومشهد السياسة يقبض الروح كمدا، وتسيطر عليه أطياف اليمين الدينى والفلولى والليبرالى، وتتبادل الأدوار فى كبح جماح الثورة، وفى السيطرة على مجالس التشريع، وفى التلاعب باسم وميراث الثورة ذاتها، وعلى طريقة انتحال الإخوان لصفة ثورة 25 يناير، وانتحال الفلول لصفة ثورة 30 يونيو، وفك «العروة الوثقى» بين الحدثين، فلولا ثورة 25 يناير ما كانت ثورة 30 يونيو، وكلها حلقات متصلة لثورة تبحث عن طريقها، وتحاول لم أشلائها فى ظروف اقتصادية وسياسية معيقة، وعلى طريقة المغزى الرمزى لقصة «إيزيس وأوزوريس» فى الأسطورة المصرية القديمة، فقد راحت «إيزيس» تبحث عن أشلاء زوجها وحبيبها «أوزوريس»، المفرقة فى الجهات والبرارى، وتضمها جسدا واحدا متحدا، تعيد إليه الحياة، وتنجب منه «حورس» رمزا لمصر الجديدة، وهذه هى بالضبط قصة الثورة اليتيمة فى مصر، والتى لم تبن بعد حزبها السياسى الموحد القادر على الفوز فى الانتخابات العامة، فقد توجد جماعات سياسية صغيرة أقرب إلى روح الثورة وبرنامجها، لكنها تظل إلى الآن مجرد أشلاء وأنوية متفرقة، لم تلتحم بعد فى حزب وطنى اجتماعى ديمقراطى جامع، وهذه هى «الحلقة المفقودة» فى سيرة الثورة المصرية المعاصرة، وقد نبهت إليها مبكرا فى كتابى «الأيام الأخيرة»، الذى صدرت طبعته الأولى فى يونيو 2008، وتحدثت من وقتها بوضوح وتفصيل عن «الحزب الذى ينتظر مصر» و«الحزب الذى تنتظره مصر»، وقلت إن الحزب الذى ينتظر مصر هو جماعة الإخوان، وأن حكمها سيكون عابرا متعثرا ومضادا للثورة بامتياز، وهو ما جرى بالدقة التى توقعتها قبل سنوات من خلع مبارك، لكن «الحزب الذى تنتظره مصر» لم يقم بعد، وهو كما تصورته ليس حزبا أيديولوجيا بالمعنى الضيق، بل حزب وطنى جامع، يضم الأقسام الغالبة من اليسار والوسط ومن حول برنامج مشترك، ينهى احتكار اليمين للمسرح السياسى، ويعبر فى حركته وتكوينه عن مصالح ومطامح عشرات الملايين الذين خرجوا إلى ميادين الثورة، ومع غياب الحزب المنتظر إلى الآن، فلن تكون ثمة مفاجأة فى صدمة التشكيل المتوقع للبرلمان، والذى يتسابق «بارونات اليمين» لشراء مقاعده، فثمة بقايا من اليمين الدينى فى جانب الصورة، وثلاثة مليارديرات فى قلب الصورة، تتشكل من حولهم تحالفات اليمين الانتخابية، تحالف من حول الملياردير نجيب ساويرس، وآخر من حول الملياردير السيد البدوى، وثالث من حول الملياردير أحمد شفيق الهارب إلى الإمارات، وكلها تحالفات فلولية بامتياز، ومع فارق نسبى بين «الفلولية الصريحة» المعادية للثورة فى تحالف شفيق، والفلولية المراوغة فى حالات الآخرين، وكلها تسعى إلى السيطرة فى البرلمان الجديد، وبهدف حصار وخنق النفس الوطنى والاقتصادى الاجتماعى التقدمى فى برنامج رئاسة السيسى، وإدامة اختيارات زمن الانحطاط التاريخى المتصل من زمن مبارك إلى حكم الإخوان، وتكريس الخلطة أو اللعنة الثلاثية الممثلة بالولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، واللعبة تبدو مكشوفة جدا، وظاهرة فى عداوتها المتربصة بمؤسسة الرئاسة نفسها، وهو ما يفسر محاولات الأخيرة للتدخل فى الكواليس، وعبر عمرو موسى الذى فشلت مقامراته، أو عبر كمال الجنزورى الذى يجرب حظه، أو عبر الإيحاء بتشكيل «أحزاب شبابية» تتدافع إليها أسماء تتدرب على تسلق سلالم الانتهازية البيروقراطية. والأسوأ من سيطرة اليمين على المشهد، وعلو أصوات الثورة المضادة بوجهها المدنى بعد استنفاد رصيد وجهها الدينى، الأسوأ من ذلك كله هو النظام الانتخابى الذى جرى إقراره، وأصدره الرئيس المؤقت عدلى منصور قبل مغادرته القصر إلى المحكمة الدستورية، وهو نظام انتخابى غير دستورى بالمرة، ويهدد بحل البرلمان المقبل كما جرى لسابقه، فوق أنه يصادر عمليا على إرادة أغلبية الناخبين، ويضاعف مقدرة المال والبلطجة والعصبيات فى التحكم بنتائج التصويت، فالنظام الانتخابى يجمع بين القوائم المطلقة بنسبة 23% والمقاعد الفردية بنسبة 77%، والقوائم المطلقة حالها كحال الانتخابات الفردية، فالذى يفوز بنسبة النصف زائد واحد يأخذ المقاعد المقررة كلها، وهو ما يعنى إهدار أصوات النصف الآخر، لو انتهت الانتخابات من الجولة الأولى، وهو ما لا يحدث غالبا نتيجة التفتيت وكثرة أعداد المرشحين، فتجرى جولات إعادة، يكون فيها التصويت أقل بمراحل، ويفوز فيها الذى يحصل على نصف التصويت المحدود، حتى لو لم تزد نسبة أصواته عن عشرة بالمئة من أصوات ناخبى الجولة الأولى، وهو ما يعنى ببساطة أن النظام الانتخابى يهدر ما قد يصل إلى تسعين بالمئة من أصوات الناخبين، ويشكل برلمانا لا يعبر سوى عن عشرة بالمئة من الشعب المصرى. وهذه هى الكارثة الحقيقية التى لا يمنعها تأجيل مواعيد الانتخابات، ولا التعجيل.