لا نريد استباق الحوادث، وإن كان الجواب ظاهرا من عنوانه الرديء للأسف ولا نظنها مجازفة إن توقعنا نتائج الانتخابات الرئاسية الوشيكة، فهي تشبه في مغزاها نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل شهور، كلاهما جري ويجري بحساب الزمن بعد الثورة، وكلاهما يأتي علي خط التصادم مع الثورة، لا نعني أننا نتوقع رئيسا «إخوانيا» علي طريقة البرلمان ذي الأغلبية الإسلامية، بل قد نكون بصدد رئيس ينتمي لفئة «الفلول» باللغة السياسية الدارجة، وقد يكون مستفزاً فاقعا في «فلوليته» علي طريقة الفريق أحمد شفيق، وإن كان الأرجح أن نكون بصدد رئيس اسمه عمرو موسي، فهو أفضل اختبار لنظام مبارك الذي لم يسقط بعد، وهو اختيار مراوغ قد لا يستنفر طاقة الثورة في سرعة العودة للميادين، وبقدر ما هو متوقع في حال اختيار شفيق نديم مبارك. ودعك من مدي دقة استطلاعات الرأي التي نشرت وتنشر، فهي مشوبة بهوي المستطلعين، ثم إنها أقرب إلي نوع من التصويت الافتراضي، والمختلف تماما عن التصويت الفعلي في بلد كمصر حديث العهد بانتخابات حقيقية، لا تبدو فيها خرائط الأحزاب متوازنة، ولا الماكينات الانتخابية بطبائع الأحوال الحزبية، ولا يبرز فيها سوي ماكينتي الجهاز الأمني والجهاز الإخواني، وبنفقات فلكية تصل إلي مئات الملايين من الجنيهات، وهو ما يفسر الانفاق المهول لحملات شفيق وعمر وموسي ومحمد مرسي مرشح الإخوان، والتي لا تخضع لأي رقابة من أي نوع، وتختلط فيها عوائد غسيل الأموال وتبرعات المليارديرات، وبهدف حجب بقية المرشحين عن أي فرصة لمنافسة حقيقية، وتوجيه التصويت الفعلي بحشد المال والرجال، وربما الشروع في تزوير مادي محصن قانونا، وحصر جولة انتخابات الإعادة في اثنين من الأسماء الثلاثة ذاتها، والتي تمثل ثلاثة أجنحة لنظام واحد في المبني والمعني، وتكفل حجز فرصة الفوز لواحد من الثلاثة، وإن كانت فرصة عمرو موسي تبدو أكثر ظهورا، وتنتهي إلي خيار يقبله الأمريكان، وإن شاغب عليه الإخوان. الصورة تبدو مقبضة لأول وهلة، والنتائج الصادمة تبدو أكثر ترجيحا، وخلاصتها مفهومة، وهي أن مؤسسة البرلمان ذهبت بأغلبيتها لجناح من الثورة المضادة، فيما قد تذهب مؤسسة الرئاسة لجناح آخر، وما من وجه للعجلة أو التعسف في أحكامنا، ففي بلد منقسم اجتماعيا إلي أغني طبقة مقابل أفقر شعب، لا تبدو قيادة الإخوان محايدة، بل هي أقرب إلي حزب الطبقة لا حزب الشعب، أقرب إلي معني اليمين الاجتماعي والسياسي، أقرب لمصالح جماعة البيزنس ذاتها، والتي يعبر عنها شفيق وموسي، فلم تكن قيادة الإخوان طرفا في قضية الثورة، وإن كان شباب الإخوان وقواعدهم الواسعة طرفا أصيلا، وجري استخدامهم وتوظيفهم لصالح قيادة تجفل من استمرار الثورة، وتتخوف من عواقب تجددها، وتريد فقط نصيبها من تركة خلافة مبارك، ولخدمة ذات المعاني والاختيارات، وإذا كان الجنرال شفيق يقولها صريحة متبجحة، ويعتبر مبارك «مثله الأعلي»، فإن قيادة الإخوان تنتهي إلي المعني نفسه، وتقدم نفسها كحزب جديد لمبارك، وإن كان يحمل ذقنا، ويتوحد مع المعتدي السابق حسني مبارك، ويعتبره «المثال الأعلي» بطريقة ضمنية مواربة، وهو ما يفسر استنساخ قيادة الإخوان لطريقة مبارك ذاتها، وتطابق سلوك نواب الإخوان مع نواب حزب مبارك المنحل، والذي يعاد ترميمه الآن بمعرفة جنرالات المجلس العسكري، ويعاد بناؤه من حول جهاز الدولة الأمني بالذات، وبتوحيد مقاصد وخط سير مليارديرات المال الحرام، وباستنفار مخاوف الأقباط من صعود الإسلاميين، ليس بهدف إجلاء الإخوان عن المسرح، بل بغرض تنظيم عملية اقتسام كعكة مبارك، وعلي أساس مبدأ «لنا الإمارة ولكم الوزارة». وما جري في عملية تصويت المصريين بالخارج يبدو موحيا، فبرغم وجود ما يزيد علي ثمانية ملايين مصري مغترب، جري تعقيد عملية تسجيل الناخبين، وحصرهم فيما يقل عن 600 ألف صوت مفترض، واستمر التصويت افتراضيا لمدة أسبوع كامل، وبدت الحصيلة بائسة، فقد صوت ما قد يزيد قليلا علي ثلث الأصوات المسجلة، وتبين أن التصويت محجوز للأغنياء والقادرين من المغتربين، فقد جري فرض رسوم باهظة علي عملية الإدلاء بالأصوات، وبلغت في بلد كالإمارات ما يساوي 350 جنيها مصريا لتصويت الفرد الواحد، وتدنت في بلد كالأردن إلي ما يساوي 128 جنيها مصريا ضريبة تصويت الفرد الواحد، وهو ما يعني - ببساطة- أن التصويت جري حجزه لمن يدفع، أو لمن يدفع عنه آخرون من ذوي الحملات الممولة بمئات الملايين، وهو ما يفسر اتجاهات التصويت الفعلي للمصريين بالخارج، وذهاب أغلب الأصوات لموسي وشفيق ومرسي، وبرغم أن التصويت الافتراضي قبل إجراء الانتخابات ذهب لآخرين، وبدت فرص حمدين صباحي وعبدالمنعم ابوالفتوح أكبر في استطلاعات الرأي، لكن الجهاز الأمني في السفارات والجهاز الإخواني عظيم التمويل، كلاهما كان له رأي آخر، حجب حق «التصويت» عن الأغلبية الساحقة من المصريين في الخارج. وقد يقال، وهذا صحيح شكلا، إن ما سري علي تصويت المصريين بالخارج قد لا يحدث في الداخل، وأن أغلبية الناخبين المقيدين بالجداول سوف تدلي بأصواتها، وبنسبة قد تصل في تقديرنا إلي سبعين بالمائة من الناخبين المقيدين وبضمانات نزاهة معقولة في إجراءات التصويت، وفي أجواء آمنة يكفلها النشر الحربي الواسع لقوات الجيش والشرطة، وهذه كلها جوانب إيجاب لا شك فيها، لكن جوانب السلب تبدو ظاهرة، فقد جري تزوير وقهر رغبة المصريين في الخارج بالتصويت، جري اختزال إرادة التصويت خارج المحروسة، وفي الداخل يجري تزييف إرادة المصوتين بطرق أخري، فعبر ما يقارب العام ونصف العام بعد إطاحة الثورة برأس النظام، جرت عملية تكفير شيطانية بالثورة، وبدا التضامن الموضوعي ظاهرا بين التكفير الديني والتكفير الإداري، وكانت محطة اللقاء مبكرة، وبعد أسابيع قليلة علي انتصار الثورة الأولي، حيث جري استفتاء 19 مارس 2011، وجرت صفقة المجلس العسكري مع قيادة الإخوان، وتضامن الطرفان في انقلاب مبكر علي الثورة المهددة للمصالح المشتركة، وتكفل المجلس العسكري بنشر الفزع الأمني والتفزيع الاقتصادي، فيما تكفلت قيادة الإخوان والسلفيين بنشر الفزع الديني، بدا المجلس العسكري كأنه يحمل مفاتيح السلامة الأمنية، فيما بدت قيادات الإخوان والسلفيين كأنها تحمل مفاتيح الجنة، وأدار الطرفان مناوشات محدودة مفتعلة، وإن كان المجلس العسكري- علي غباوته المفرطة- بدا أذكي من قيادة الإخوان، والتي نزعت إلي نوع من الحلول العائلي محل عائلة مبارك، وبما نشر المخاوف في أوساط المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وهو ما استفاد منه المجلس العسكري، واستثمر تراجع شعبية الإخوان نسبيا، ودفع برجاله المباشرين إلي منصب الرئاسة، ليس بوصفهم الأصلي كمدافعين ومنتمين لجماعة مبارك، بل بوصفهم- المستعار- كحماة متصدين لزحف الإخوان علي مفاصل الدولة كلها، ودفع الناس لإيثار «السلامة الأمنية» مع رجال المجلس العسكري، وتحجيم «الفزع الديني» الذي تمثله قيادات الإخوان والسلفيين! وبالجملة، يبدو الرئيس المحتمل «رئيسا» للثورة المضادة بامتياز، وقد يغيب جنرالات المجلس العسكري قليلا عن المشهد الأمامي، لكن رئيس الثورة المضادة لا يمكنه الحكم ولا التحكم بدونهم، فقد تركوا «الفراغ الأمني» عن عمد، وعن سابق اصرار وتصميم وترصد، ولكي لا يتاح لأحد أن يحكم بدون طاعة «الجنرالات». نشر بالععد 597 –تاريخ 19/5/2012