البلد يحترق، والفوضي تضرب في كل مكان، ومن أسوان والأقصر إلي بلطيم وبرج البرلس، ومن عصابة الحمبولي جنوبا، إلي بطل موقعة التوك توك الدموية شمالا، ومن خطف الأطفال إلي خطف الكبار، ومن حروب القري إلي حروب المدن، بينما الدولة تحللت تماما، فلا الشرطة العسكرية قادرة علي شيء، ولا الشرطة المدنية تفعل شيئا، فقد انفلتت الشرور من عقالها، ونضح المجتمع بأسوأ ما فيه، وانتقلنا من حكم العصابة إلي غابة العصابات، وإلي سلطة تتصرف بمزيج من العجز والاستهبال، وتحاول النجاة برءوسها من طوفان الدم الذي يغرقون البلد فيه.وقد لايصح إعفاء أحد من المسئولية، فقد تصرفت الأطراف السياسية بما يليق بها، بدت النخبة في حالة انحطاط تاريخي، وبدت الأحزاب والجماعات في صورة مزرية، لم يكن أي منها يجرؤ علي قول لا في وجه مبارك، وبعد خلع الطاغوت، تصرفت كجماعة طفيليين، انتحلت صفة الثورة التي فاجأتها، وحاولت ركوب موجتها، وشاركت بنشاط في عملية دفن سريع للثورة، وحتي لاتطالهم ألسنة النار، وتنهي هزلهم وتدجيلهم وتطبيلهم، وخلافاتهم التافهة التي لاتعكس شيئا مما يهم الشعب المصري، وبدا أن مصلحة مصر هي آخر ما يرد علي بالهم، وأن هموم استعادة الاستقلال الوطني، وتحرير البلد من هيمنة الأمريكان والإسرائيليين، وقضايا التصنيع والنهضة والاختراق التكنولوجي وعدالة التوزيع، وتشغيل العاطلين، وإغناء الفقراء، وتزويج العوانس، واستعادة الأموال المنهوبة، ورد ممتلكات ومصانع ومنشآت الشعب، وبناء مثال مصري قادر وعادل وملهم، بدا ذلك كله خارج حسابات نخبة ملوثة ومتواطئة، وليس لدي أغلب أطيافها إسلاميين كانوا أم ليبراليين، ليس لدي أحدهم حل، ليس لأنهم لايعرفون، بل لأنهم لايريدون، فهم مجرد خدم لمصالح متحكمة في المصير المصري، اقرأ مثلا برنامج حزب الإخوان أو حزب السلفيين، فلن تجد فارقا يميزهما عن برنامج حزب نجيب ساويرس أو حزب الوفد، فاختيارهم واحد في القضية الوطنية، والمفهوم واحد في البرامج المذكورة، وما يشابه من أحوال برامج لأحزاب مثيلة، المضمون: سلام الخضوع لإسرائيل والاحتلال السياسي الأمريكي، واختيارهم واحد في القضية الاقتصادية الاجتماعية، والعنوان: شريعة السوق التي ينتحل لها البعض صفة دينية، وهو ما يفسر هذا اللجاج عن هوية الدولة، والمبالغة في افتعال خلاف حول مكانة الشريعة في الدستور، بينما لا خلاف جوهريا، والمبالغة في الخلاف مقصودة، والهدف.. تغطية علي وحدة البضاعة، ووحدة البرنامج، وهو تكرار منقح لفظيا لبرنامج حسني مبارك نفسه، وكأن كل طرف يقول للناس: انتخبونا، لا لشيء، إلا لأننا الورثة الأفضل لسياسة المخلوع. هذه الأطراف المعادية للثورة في جوهرها، وغيرها من أحزاب وجماعات بأسماء تشابهت علينا كالبقر، هذه الأطراف المتصايحة باسم الإسلام أو باسم العلمانية، كلها لعبت دوراً رديئا، وساندت عملا يجري بهمة ونشاط، ويهدف إلي إعادة التمكين لنظام مبارك دون مبارك نفسه، ويقدمون أنفسهم للأمريكان وأصدقائهم كوكلاء مفضلين، ويخونون الثورة ودم شهدائها، ويدهسون المبادئ في غلظة، لا تهمهم المحاكمات الجدية لعصابة المخلوع، ولا استعادة كرامة البلد واستقلاله، ولا مصالح أوسع الطبقات والفئات في مصر، إلا من باب توزيع الفتات الخيري، وهدايا اللحمة، وشيكات شراءالأصوات، والتلاعب بوجدان الناس، واستغلال بؤسهم ويأسهم وتربية ذقون ثقيلة لنظام مبارك واختياراته نفسها، وتحويل الفلول إلي أصول، وهو ما يفسر وجود جماعة مبارك علي قوائم وترشيحات أحزاب وجماعات، وصمت جماعات وأحزاب أخري عن مبدأ العزل السياسي، وقبولهم بتقاسم الكعكة مع الفلول، ودهس أحكام القضاء بحل حزب الرئيس المخلوع، ثم حكم القضاء الإداري الأخير باستبعاد أسماء «الوطني المنحل»، وإلزام المجلس العسكري واللجنة العليا للانتخابات باستبعاد الفلول جميعا، وهو حكم ناصع أثبت أن في مصر قضاة يستحقون الصفة، بينما الساسة مجرد ركام، وأغلبهم من حصاد حالة انحطاط تاريخي كان مبارك عنوانا علي فضيحتها الأبرز. تبدو مصر الآن في السلطة والأحزاب والجماعات علي النحو التالي، تبدو بلدا دهسه القطار، وتدنت فيه الأسقف والرءوس، ولم يكن ذلك مفاجئا علي أي نحو، فقد قلنا وتوقعنا في عصر مبارك ما سيجري بعده مباشرة، قلنا إننا سندفع الثمن مرتين، مرة ومبارك في الحكم، ومرة وهو خارجه، وها نحن ندفع الآن ضرائب الصمت الثقيل الطويل، فكيفما تكونوا يولي عليكم، وكما بدت الحالة ظاهرة في انحطاط الأحزاب، والجماعات، فإنها بدت ظاهرة أكثر في قصر الحكم، تواضع تفكير مبارك، وانشغاله بنهب البلد، وخدمة الأمريكيين والإسرائيليين، وانحطاطه العقلي المثير للأسي علي مصر، هذه الحالة ذاتها زحفت بطبائع الأمور إلي معاونيه درجة فدرجة، وفي كافة أجهزة الدولة التي فاحت روائح تحللها الرممي، وهو ما يفسر تواضع التفكير السياسي لجنرالات المجلس العسكري الحاكم الآن، وتواضع مقدرتهم علي الإلمام بأصول إدارة دولة بحجم مصر، وسهولة التغرير بهم من جانب أحزاب وجماعات، أو بنصائح إسكافية وترزية القوانين، هذا بالطبع فضلا عن التواء القصد وسوء النية، والرغبة الظاهرة في تكفير الناس بالثورة وسيرتها، نتحدث هنا بالطبع عن سياسة المجلس العسكري، وليس عن دوره كقيادة عسكرية للجيش المصري العظيم، وهو ما لانعلق عليه ولا نتدخل فيه، وليس من دورنا تقييمه، فالأمر متروك لأهله، وما يهمنا هو سياسة المجلس العسكري، والتي كنا نود أن نحسن الظن بها، لكن ما ثبت إلي الآن شيء آخر مختلف، فبعض جنرالات المجلس العسكري متعاطفون حقا مع الثورة، لكن سياسة المجلس العسكري في جملتها معادية للثورة بالجملة، وأدخلت البلد في النفق المظلم، وبأسوأ مما كان يفعله حسني مبارك نفسه، وبمزيج من الغفلة والتواطؤ مع الرغبات الأساسية للأمريكيين والسعوديين بالذات. الانتخابات البرلمانية إن جرت لاتقودنا إلي منفعة للثورة، ولا للبلد، فهي انتخابات تكفين الثورة، وبرلمانها ليس للثورة، بل عليها، وسيكون في جملته برلمانا للثورة المضادة، برلمان لليمين الإسلامي والليبرالي، وعين حارسة لمصالح مليارديرات المال الحرام، وبأسوأ من برلمان أحمد عز، والأسباب ظاهرة جداً، فقد مضت سياسة المجلس العسكري في الطريق الخطأ، وعن عمد، وضعت العربة أمام الحصان، وقلنا لهم حين كنا نحسن الظن إن «الدستور أولا ياجنرالات»، وأن انتخاب جمعية تأسيسية أو مجلس تأسيسي هو الخطوة الأولي، وتلك بديهية معروفة في سيناريو مراحل الانتقال، وداس الجنرالات علي البديهيات، وساندتهم ذقون ثقيلة، جعلت من سياسة المجلس العسكري أقصر طريق لدخول الجنة (!)، وأدخلوا البلد إلي الجحيم، وأهدروا تسعة شهور كاملة في كلام فارغ، وحين تقرر إجراء الانتخابات، قلنا لا بأس، فلعل البلد يجد مخرجا، لكنهم سلكوا أكثر الطرق بؤسا، وأضافوا إلي المصيبة مصائب أثقل، أضافوا انحطاط السياسة إلي تدهور الأمن وركود الاقتصاد، ودخلوا في لعبة تقطيع الوقت، وامتنعوا عن إصدار قانون أو مرسوم العزل الساسي، وجعلوا النظام القديم بشخوصه ومصالحه طرفا أساسيا في اللعبة، وسمحوا لهم بثمانية أحزاب مصرح بها، وابتلع اليمين الإسلامي والليبرالي لسانه، فهم والفلول أصدقاء وجماعات مصالح مشتركة، كان الخطأ قاتلاً، وجري عن قصد من المجلس العسكري، وجنرالاته ذواتهم أبناء لقرارات المخلوع، ولم تكل أيديهم يوما من أداء التحية العسكرية لسيادته، ومن تسخير الجنود لرسم تشكيلات باسمه «المبارك» في ساحات العروض العسكرية، وحين صاروا حكاما، لم يقطعوا الصلة بما كان، بل بذلوا ويبذلون جهودا لترميمه وصيانته،ولو بدفع البلد إلي جحيم الاقتتال الأهلي، والتعاون مع جماعة مبارك باعتبارها الجناح السياسي للمجلس العسكري، وإضافة المؤلفة قلوبهم من أحزاب وجماعات اليمين الإسلامي والليبرالي، وهكذا تكاملت المصالح، وفضل الكل غض الطرف عن حكاية الفلول التي صارت أصولا، بعدها كانت التواطؤات تمشي سراعا، وبتصميم أسوأ نظام انتخابي عرفته تجارب الدنيا الديمقراطية كلها، فلا هم أخذوا بالنظام الفردي المفهوم للمصريين بحكم العادة، ولا هم أخذوا بالنظام النسبي، كانت ميزة النظام الفردي هي الوضوح، وميزة النظام النسبي هي الاختيارات الأفضل، فالنظام النسبي يحفظ لكل صوت قيمته وتأثيره في صناعة البرلمان، بينما النظام الفردي يهدر غالبية الأصوات، والنظام النسبي يزيد من القيمة السياسية للانتخابات، ويقلص تأثير عناصر البلطجة والعصبيات وعمليات شراء الأصوات، وقد ادعت الأحزاب والجماعات أنها تفضل النظام النسبي الكامل، لكنها تواطأت في النهاية مع سياسة الفوضي التي يتبناها المجلس العسكري، ووافقت علي نظام انتخابي لقيط، غير دستوري وغير إنساني، ويؤدي إلي برلمان كامل البطلان، وبلا مثيل في الدنيا كلها، وافقت علي نظام يجمع سوءات النظام الفردي حتي في عباءة القوائم النسبية، ويهدر مبدأ المساواة، فأصل النظام النسبي ظاهر ومعروف حتي للمبتدئين، وصورته المثلي النقية مشهورة، وعنوانه الأصلي: نظام القوائم النسبية غير المشروطة، وتتساوي فيه حقوق الكافة بالترشح، ويمكن المستقلين كما الحزبيين من تكوين القوائم، وسواء كانت قوائم حزبية خالصة، أو قوائم لمجموعات من الأحزاب، أو قوائم مستقلة خالصة، أو لخليط من الحزبيين والمستقلين، ودون عوائق من أي نوع، ولا اشتراط أن تكون القوائم كاملة، ولا اشتراط التقسيم إلي دوائر، فيمكن للبلد أن تكون كلها دائرة واحدة، وأن يجري التصويت علي القوائم مهما بلغ عددها، وهو ما ييسر عملية التصويت في أي جغرافيا، أو في أي لجنة انتخابية، فالموطن الانتخابي لأي فرد هو مصر كلها في هذه الحالة، ويستطيع المصريون بالخارج أن يصوتوا دون تعقيدات،وعلي العكس من الهيصة والزمبليطة التي تجري الآن، وفي ظل نظام اللوغاريتمات والدوائر الانتخابية الهجينة، والتي لايعرف فيها أحد أين تقع لجنته الانتخابية بالضبط؟، ولا تعرف غالبية الناس كيف سيتم التصويت،وفي سياق من التردي الأمني المفزع، والنتائج المتوقعة كالتالي، وهي أن أغلب الراغبين في التصويت لن يتمكنوا من الإدلاء بأصواتهم، فعملية التصويت للفرد الواحد تستغرق دقيقتين في أفضل الأحوال، وفي انتخابات تونس مثلا، كان الناخب يضع رأيه في ورقة واحدة، بينما يطلب من الناخب المصري أن يصوت في ورقتين، وسهولة التصويت في انتخابات تونس بنظام القوائم النسبية، سهولة التصويت قفزت بنسبة المشاركين إلي حوالي نصف عدد من لهم حق التصويت، بينما التصويت في مصر أشبه بامتحان الثانوية العامة، والفرقة الناجية التي ستنجح في التصويت محدودة جدا، وقد لاتزيد في أفضل الظروف علي ربع إجمالي الناخبين، وهوما يعني أن البرلمان المقبل، وحتي بافتراض سلامة الإجراءات، لن يكون برلمانا للشعب ولا للثورة، بل برلماناًَ لأقلية تحتكر حق التمثيل، وتماما كما كان أحمد عز يحتكر الحديد.. والبرلمان بالمرة! هل هناك حل؟ نعم، وخلاصته ثورة سلمية ثانية تحطم هيمنة المجلس العسكري وأحزابه وجماعاته، وفي ذلك فليتنافس المخلصون لقضية الثورة المغدورة. نشر فى 14 نوفمبر 2011