مصر رايحة علي فين يا أستاذ؟، سؤال تكرر علي سمعي مئات المرات هذا الأسبوع، وفي زحام الشارع، ومع إلحاح السائلين الكرام، كانت إجاباتي مقتضبة جدا، لا محل فيها لتفاؤل ولا لتشاؤم، بل لثقة في انتصار الثورة، وإن كانت اختناقات اللحظة تسد الحلوق. حيرة المصريين زادت مع النجاح الباهر لتجربة الانتخابات التونسية، فقد مضت تونس في الطريق الذي تعرفه تجارب وثورات الدنيا الديمقراطية كلها، ودخلت إلي مرحلة انتقالية سليمة في عمومها، وجري انتخاب مجلس تأسيسي - جمعية تأسيسية - لصياغة الدستور أولا، بعدها تجري انتخابات البرلمان والرئاسة، وتبني مؤسسات مستقرة تكمل مددها الدستورية، وقبل انتخابات المجلس التأسيسي التونسي، كانت قد جرت إجراءات العزل السياسي لجماعة نظام زين العابدين بن علي، ومشت التجربة في سلاسة، وبنضج ظاهر لسلطة انتقالية مدنية، تدري ما حولها، وتعرف الأصول، بينما سلطة المجلس العسكري وحكومته في مصربدت علي العكس بالضبط، ارتباك هائل، وغرق في شبر ميه، وتباطؤ أوحي بالتواطؤ، ثم انتقال إلي تواطؤ صريح، وإدخال البلد في نفق مظلم، وقيادة حملة الفلول للتكفير بالثورة، وجعل مصير البلد علي كف عفريت. وربما كانت هناك فروق تفصيلية مفهومة بين الحالتين التونسية والمصرية، فتونس بلد أصغر بكثير حجما وسكانا، ونسبة التعليم فيها أفضل، ونسبة الفقر أقل، والبؤس الاجتماعي محجوز في الولايات الجنوبية، بينما البؤس في مصر عام وشامل، والفقر ينهش بطول البلد وعرضها، وحتي التيار الإسلامي في تونس مختلف، فقد فازت «حركة النهضة»بالنسبة الأعلي من الأصوات، وبدت كحركة قومية تعتز بثقافة الإسلام، وليس حركة إسلامية علي الطريقة المصرية البدائية، وزعيم النهضة راشد الغنوشي قامة فكرية سامقة، بينما زعماء التيارات الإسلامية في مصر أشبه بنباتات الظل الصناعية، مجرد ذقون ثقيلة تمشي علي الأرض، ولا تصح مقارنة أحدهم براشد الغنوشي، وليس بينهم عقل يلتفت إليه بعد فقدان جماعة الإخوان لرموز من طراز عبدالمنعم أبو الفتوح وكمال الهلباوي، وبينما يبدو راشد الغنوشي مفكرا وسياسيا من طراز رفيع، وقد كان ناصريا في ستينيات القرن العشرين، وأصبح ملهما ومعلما بتكوينه العقلي الكفاحي المميز، فإن قادة التيارات الإسلامية المصرية في حال البؤس العظيم، وأغلبهم أقرب في تكوينه إلي شيخ جامع في قرية ، أو حتي إلي خادم زاوية تحت عمارة سكنية مزدحمة. نعم، الفروق مفهومة، لكن الفارق الأفدح كان في السلطة الانتقالية بالذات، وهي الأسوأ بامتياز في مصر، وقد أساءت للثورة ولمكانة مصر معا، بل أساءت لسمعة الجيش المصري الذي نفخر بضباطه وجنوده، وعكست تواضعا مريعا في معايير الكفاءة، وفي افتقاد الحس السياسي، وفي الجهالة البدائية بأصول إدارة دولة في حجم مصر، يترقب العالم العربي كله ما يجري فيها، وقد يهتم بما يجري في تونس كبلد عربي عزيز، لكن الاهتمام الأعظم بما يجري في مصر بالذات، فما ستصير إليه الأمور فِي مصر، سوف يعود، ويطبع بطابعه ما يجري في الدنيا العربية كلها، وقد انحدرت مكانة مصر طوال عهد مبارك البليد الراكد، وبدت مصر كبلد دهسته عجلات القطار، وبدت جهالة المخلوع من سوء حظ مصر، ثم انزاحت غمة مبارك بثورة شعبية أسطورية، وبدا أننا علي موعد مع القدر الأفضل، ونحن كذلك بالفعل، مع أن ظواهر أحوالنا توحي بالأسوأ، لكن القصة لم تنته فصولها، فالثوة لم تكمل دوراتها، ولا نزال في عام الفيل، والمجلس العسكري - في جملة سياسته - قريب الشبه بحال المخلوع في أيامه الأخيرة، ويتصور جنرالاته أنهم ملكوا الدنيا وما عليها، ويستغفلون الشعب المصري، ويبالغون في تقدير درجة ذكائهم السياسي، وقد فعلها مبارك من قبل، وتصور أنه حكيم زمانه وفريد عصره وأوانه، وكانت نهايته علي ما نعرف ويعرفون. وقد قلناها للمجلس العسكري من أول يوم، قلنا لهم «الدستور أولا ياجنرالات»، وأن الأساسات توضع أولا، ثم تبني العمارات، لكنهم صموا آذانهم، ولم يستمعوا لنا، وفضلوا الاستماع إلي وسوسة الإسكافية وترزية القوانين والدساتير، وتنكبوا عن شريعة الالتزام بشرعية الثورة، ولجأوا إلي الترقيع، وكأنهم لم يسمعوا بواقعة قيام الثورة من أصله، لجأوا إلي ترقيع المرقع، ودعوا إلي استفتاء باطل في أصل السعي إليه، وحصروا القصة كلها في تعديلات دستورية محدودة، وحين وافقت الغالبية الشعبية في استفتاء 19مارس2011، وعلي أمل أن يسلموا السلطة كما وعدوا في شهور، لجأ الجنرالات إلي الاستعانة مجددا بحيل الإسكافية والترزية، وصاغوا نصوصا علي مقاسهم في الإعلان الدستوري الثاني، وأهدروا ما قالوا عنه إرادة الناس، ونصبوا أنفسهم حراسا، وهم لا يملكون خبرة ولا معرفة، ناهيك عن تواطؤهم الذي تكشفت مظاهره تباعا ضد الثورة وأهلها. قلنا لهم لابد من محاكمات جدية وعزل سياسي لعناصر النظام القديم، فلجأوا إلي المراوغة، وأضاعوا الوقت في محاكمات هزلية، حققوا مع مبارك وجماعته بعد تركهم طلقاء لمدة شهرين، وساعدوهم علي تهريب المليارات المنهوبة، وإحراق كل الوثائق بمعرفة زكريا عزمي وحسن عبدالرحمن، ثم جلبوهم إلي محاكمات تحت ضغط الثوار في ميادين التحرير، ثم أفرغوا المحاكمات من كل معني جدي، وملأوا ساحاتها بالشهادات الزور، ورفضوا إعداد قانون خاص يضمن جدية المحاكمات وشمولها، ثم وضعوا قانون جريمة الغدر في الثلاجة، وأعدموا التعديلات اللاحقة عليه، وأهدروا أحكام القضاء القاضية باسترداد منشآت ومصانع عامة، وأغرقوا البلد في الديون والقروض علي طريقة السادات ومبارك، وجعلوا الفلول أصولا، وأنشأوا لها ثمانية أحزاب، وسمحوا لها بتصدر قوائم المترشحين في انتخابات «العك السياسي». قلنا لهم إنه لابد من الدستور أولا، فوضعوا العربة أمام الحصان، وقلنا لهم إن الأمن أولا، فتركوا المصريين نهبا لعصابات البلطجة والانفلات الأمني، وقلنا لهم إنه لابد من عزل سياسي شامل، وقبل إجراء أي انتخابات، فواصلوا عزل الثورة نفسها، وإفساح المجال لجماعات اليمين الإسلامي مع جماعات المال الحرام، وعلي أمل اقتسام الكعكة، وعلي قاعدة الإمارة للجنرالات والوزارة للفلول والذقون. قلنا لهم إنه لابد من انتخابات القوائم النسبية غير المشروطة، والتي تتساوي فيها فرص وحقوق المستقلين والحزبيين، وعلي أن تكون البلد كلها دائرة واحدة، وبطريقة تيسر كفالة حقوق المصريين بالخارج في التصويت، فلجأوا إلي الإسكافية والترزية إياهم، وصنعوا نظاما انتخابيا أشبه باللوغاريتمات، لا يفهمه المرشح، فما بالك بالناخب المسكين، ودخلوا في «حسابات بقالة» مع قوي سياسية مريضة خائفة من الثورة بطبيعة المصالح المتحكمة، وتتصرف علي طريقة عبدالفتاح القصري في فيلم «ابن حميدو»، تتظاهر بالتشدد والمعارضة، ثم تنزل كلمتها الأرض «المرة دي» كما كل مرة، والمحصلة: نظام انتخابي غير دستوري وغير إنساني، أهدر حقوق المساواة بين المواطنين، ويفتقد مزايا الوضوح في النظام الفردي، ويفتقد مزايا الأولوية للسياسة في النظام النسبي، ويجمع السوءات كلها في سلة، ويضيف إليها مخاطر البلطجة وسطوة المال وعصبيات العائلات والملل والنحل، وينتهي إلي برلمان انتقالي بخليط مشوه، يصلح مطية ممتازة للمجلس العسكري، ويكفر الناس بثورة تنتهي إلي برلمان مضاد للثورة. قلنا لهم إنكم تذهبون بالبلد إلي نفق مظلم، وأنكم تكررون خطايا مبارك نفسها، وتلجأون إلي المحاكمات العسكرية لأصحاب الرأي، وإلي الرقابة العسكرية علي الصحف، وإلي المصادرة المسلحة لحرية الصحافة، وكان ردهم عجيبا، وكانت هديتهم أعجب للصحفيين في يوم انتخابات نقابتهم، فبعد أسابيع قليلة من «المصادرة المسلحة» ل«صوت الأمة»، قرروا استدعاء الزميل اللامع «محمود الضبع» - من «صوت الأمة» إلي القضاء العسكري، وفي شأن مدني تماما يتعلق بتمييز ابن اللواء ممدوح شاهين في جامعة الأزهر، وبطريقة تدوس علي أبسط البديهيات، وعلي أولويات المعارف القانونية، وكأنهم يتصورون أن ثمة حصانة عسكرية لابن سيادة اللواء، أو أن اللواء شاهين هو ملك مصر والسودان! قلنا لهم ولم يسمعوا، كما قلنا لمبارك ولم يسمع، فكانت الثورة، ثم تكون القارعة.