د. فوزى فهمى طرح الرجل سؤاله الموجع: لماذا تبدو وطأتنا ثقيلة علي الكرة الأرضية؟ ثم راح يكشف تجليات دلالات سؤاله في مستويات متعددة لممارسات تلك الوطأة الثقيلة للولايات المتحدة علي العالم، حيث شرع في طرح وقائع تجسد مسارات دوافع ضاغطة، منتجة لمعني ثقل هذه الوطأة، تبدت في احصاءات تفصح ان الولاياتالمتحدة تمثل أقل قليلا من 5٪ من سكان العالم، لكنها تبتلع 72٪ من انتاج النفط في العالم، وانها تنتج وتستهلك 03٪ من الناتج العالمي، وتنفق 04٪ من مجموع الانفاق العالمي علي السلاح، ثم يضيف »بول كينيدي« المؤرخ الإنجليزي، والأستاذ بجامعة ييل، مؤكدا ان ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية تعادل ميزانيات الدفاع مجتمعة لأكبر تسع أو عشر دول، من حيث انفاقها العسكري. لقد استهدف سؤال الرجل، والاحصاءات التي أوردها، ايقاظ انبثاق الوعي انفتاحا علي تقييم تلك الادراكات، والتقديرات، والخيارات السياسية التي أقرت هذه الظاهرة، إذ يشير الرجل بوصفه مؤرخا إلي انها حالة غير مسبوقة عبر التاريخ، بل تشكل بلا مواراة وطأة ثقيلة علي العالم. صحيح ان الرجل قد أدرك معرفيا أخطار هذه الوطأة الثقيلة، وصحيح أيضا ان رهان جسر العبور إلي التنوير والفهم، يتبدي عند حضور قدرتنا علي اسباغ المعقولية علي علاقتنا بالعالم من حولنا، وليس إلغاؤه أو استلابه اقتصاديا وسياسيا، لذا فإنه من الصحيح كذلك أن تشخيص الرجل يعني ضرورة تصحيح وقع هذه الوطأة الثقيلة، وذلك ما يتبدي محسوما من خلال تساؤلاته اللاحقة التي طرحها مستفسرا: كيف نفسر هذه الوطأة الثقيلة، ونبررها لأنفسنا، ولبقية العالم؟ ماذا نستطيع أن نفعل ازاء هذا الوضع، إذا كان ثمة ما يمكن أن نفعله؟ واجه »بول كينيدي« ظاهرة السياسة الأمريكية، بامتدادها، وافراطها الملتصق دوما بالحدود القصوي، وهيمنتها التي خولت لها استلاب العالم والتهامه، اذ راحت تسوق نفسها بادعائها انها الحقيقة، وانها إنجاز التاريخ الأعلي والأخير، وتمثل للعالم الخيار الوحيد، ابتلاعا لما قد يلوح في الأفق من ظهور بديل مغاير جديد، لذلك فإن »بول كينيدي« حين يطرح تساؤلاته عن السياسة الأمريكية، إنما ينطلق من قاعدة تري ان الظواهر الاجتماعية، والسياسية، والتاريخية يكرس الصمت اقرارها، سواء أكان تسليما ضمنيا، أم صراحة، أم استسلاما لتشاؤم بأن شيئا لن يتغير، عندئذ يتجمد الفكر فلا يستولد الاستشعار الحذر بالخطر الذي يكمن في ظواهر قائمة أو مستجدة، في حين ان طرح التساؤلات عنها، وإعادة طرحها باستمرار يعدان دلالة تفتح الفكر علي الانتباه والفحص الفعال والمسئول، بما لا يسمح لهذه الظواهر ان تتبدي نصبا صامتة، تقود العالم، وقد تدمره، لتدني ايجابية فهمها، إذ فهم ضرورة العالم فهما تاما، يؤكد حضور عقلانية عملية، قادرة علي التغلب علي الأهواء، ونفي أشكال التجاوزات في العلاقة مع الآخرين، وتحديدا رغبة الهيمنة والاقصاء؛ لذا فإن طرح التساؤلات عن ظاهرة السياسة الأمريكية تجاه العالم، يعني تفكيكها فهما وتعرفا لاستهدافاتها، وآليات شحذها، اسقاطا لادعاءاتها، وفضحها لزعمها، بمكاشفة مدي اتساق خطابها المعلن، مع سياق اجراءاتها العملية واقعا. ويرتكز اهتهام »بول كينيدي« في مساءلته للسياسة الأمريكية، منطلقا من مباشرة سلامة مبدأ ارتباطها بانتاج حقوق البشر، وحقيقة استيعابها للانفتاح علي مبدأي المشاركة، وتقاسم الحلول والأحزان مع الغير من سائر البشر، ومدي يقين اصطباغها بالعقلانية، والوجدانية، وعيا واستشعارا بالمشكلات الإنسانية، ما تجانس منها وما تنوع. يعلن »بول كينيدي« تصديه لكل أشكال تضليل الآخر والذات معا، بطرحه تساؤلاته عن تلك الوطأة الثقيلة للولايات المتحدة علي العالم، حيث تتبدي تساؤلاته أيقونة للمرارة والخجل، وكأنه يحاول أن يتحرر من تلك السياسة الأمريكية وأوهامها، فهو يتساءل مستنكرا: »إذ كيف يمكننا أن نفسرها، ونبررها لأنفسنا، ولبقية العالم؟«، والرجل يستند منهجيا إلي ضرورة فهم العالم وحقائقه، بوصف العالم بكل حقائقه جديرا بالفهم، وليس ثمة معضلة في استدراك مسلك الفهم، وذلك ما تجلي واضحا من خلال مساحة الاستدراك الواردة في تساؤله: »وماذا نستطيع أن نفعل ازاء هذا الوضع، إذا كان ثمة ما يمكن أن نفعله«، أي ان صلاحة الفهم تتأتي من صلاحة العقل غير المحدود بمرآته المغلقة علي ذاته، فالحقائق لا تغلق أبوابها أمام فتوحات العقل، الذي عليه أن يدرك كما يؤكد الرجل ان الوطأة الثقيلة للولايات المتحدة علي العالم، قاعدتها ان الأمريكيين »لم يتذكروا ان الولاياتالمتحدة، في وجودها علي ظهر هذا الكون، ليس لكي تمارس قضايا السياسات بصورة أحادية الجانب، وكأن لا أحد عداها في هذا الكون«، ولاشك ان ذلك ما يعد أكبر سطو، إذ التاريخ الحقيقي للبشر يتعين عندما تتجلي العقلانية، وليست الأهواء والقنص. تتعدد جهود النخبة الأمريكية في محاولة إعادة ربط السياسة الأمريكية بالمعقولية، وتحريرها من هوسها بامتلاك القوة المفرطة، حتي ان إحدي قامات هذه النخبة زبجنيو بريجنسكي أكد »ان أمريكا قد تكون متفوقة، لكنها ليست كلية القدرة، يضاف إلي ذلك ان باقي العالم لا يستطيع أن يتصرف كما لو ان سبب وجوده محصور بتوفير الأسواق لأمريكا، بتزويد الولاياتالمتحدة بالثروة، وبالحفاظ علي نمط حياتها القائم علي المبالغة في الانفلات والافراط في الاستهلاك، لا تستطيع أمريكا تجنب العزلة والغرق في دوامة الهيمنة الرملية، ما لم تبادر إلي صياغة استراتيجية شاملة بالتعاون مع شركائها«. تري ألا تصدق نصيحة »روبرت جينسن« في كتابه »مواطنو الامبراطورية: صراع المطالبة بإنسانيتنا«، بأن »علي الأمريكيين التوقف عن العيش فوق العالم، والشروع في العيش جزءا من هذا العالم«، انقاذا للعالم من ثقل وطأتهم عليه؟