صحيح أن الحروب التي تواجهها المجتمعات، عسكرية كانت، أو أمنية، أو اقتصادية، أو فكرية، لا تخلو من المؤامرات، ويقدر زمن امتدادها، وتوقيت انتهائها مدي إنجاز النتائج المبتغاة من الجانب الذي شنها، وصحيح أيضا أن هذه الحروب تنتج بؤسا اقتصاديا واجتماعيا نسبيا علي الجانبين المحتاربين، لكن الصحيح كذلك أن حربا لا تنتج خسائر لسوي جانب واحد، هي تلك التي لا تعتمد علي مواجهة بشرية متبادلة بين الجانبين. وانطلاقا من حقيقة أن الأفكار تحكم العالم، وأن سلطتها تتجلي عندما يتحرك الناس معا، وتتلاشي عندما يتفرقون؛ لذا فإن »حرب الأفكار« بين البلدان تتحجب بقناع مهما تبدي ظاهره، فإن باطنه استراتيجية تستهدف انفجار تآكل المجتمع ذاتيا من داخله، باستعدائه علي ذاته، بأن يخترق أحد الجانبين الجانب الآخر، بالتواري، والتواطؤ لإحداث شرخ اجتماعي يفكك توافق المجتمع، فيفضي إلي مواجهات بين معتقدات جماعات المجتمع وقناعاتها، تكسر وحدته، وتشرذمه، وبقدر استمرار هذه المواجهات وامتدادها، عندما تتبدي حاضرا آنيا طاغيا لا يمضي، بل يستعصي عن أن يغدو ماضياً، لا يصبح لذلك المجتمع من مستقبل، إذ بتفتته وانقسامه يكون المجتمع قد انتحر. وفي هذا المجال فإن »مراكز الفكر«، أو »مراكز الدراسات والأبحاث« تعد لاعبا مهما، بوصفها ذات اختصاص في إجراء التحليلات للمجتمع المستهدف، والكشف عن العناصر، والاتجاهات، والتناقضات، وتعدد القوي داخل المجتمع، وآليات تحريكها، وخطوط امتدادها، وتحديد الخطر الأكثر فعالية، وآليات التجليات الإجرائية لردود الأفعال، ووزنها، ثم تطرح استراتيجية تحويل حرب الأفكار إلي طاقة تدمير لما هو كائن بين نسيج المجتمع من استقرار ومسالمة، لحساب ما هو محمول بالمخادعة علي الحدوث، من تناقضات، وتضاربات، ومواجهات لا تنتهي. تنتشر هذه المراكز وتتناظر عبر العالم وتتعدد، ويجري تصنيفها وفقا لمعايير مجالات اختصاصها، واستقلالها، أو تبعيتها للحكومات. صحيح أن لدي الولاياتالمتحدة كثيرا من المؤسسات البحثية، وصحيح أيضا أنها قد تنوعت مداراتها المعرفية، وامتدت مجالات استخدامها، وصحيح أنها أصبحت المصدر الرئيسي للمعلومات والخبرات بالنسبة إلي صانعي السياسات، والرأي العام؛ بل اكتسبت قوة إجرائية مؤثرة، في السياسة الخارجية، والأوضاع الداخلية، لكن الصحيح كذلك أن بعض هذه المراكز تقترن تحليلاتها بغطاءات لتوجهات فكرية معينة، وبعضها يلوذ بدس توظيفات سياسية محددة، أو يتبني منهجاً حزبيا، أو يتبدي مشدودا إلي أجندات خاصة، بل إن بعضها يمارس ضغطا علي صانعي السياسات، لكن بعضها يلتزم بحيدة القواعد الموضوعية وضوابطها، دون الجموح أو التهاوي أمام الأهواء. بعد مباغتة أحداث الحادي عشر من سبتمبر ووفقا لمنطق الوجوب تعرض مسار أنشطة هذه المراكز لضرورة فرض توجه تعميمي علي أبحاثها، من منطلق استدراك المستقبل، وطرح تدابير الاستباق ضد الإرهاب، وذلك بمحاولة طرح أفكار وتحليلات عن المحرك الأساسي لمضخة العنف المرتبط بالإرهاب المخترق للحدود، وعلاقته بدائرة كل الأطراف في العالم الإسلامي، انخرطت المراكز البحثية الأمريكية في ممارسة تحليلاتها، وأصدرت تقاريرها، وفي مقدمتها تقارير »مؤسسة راند«، بوصفها أكبر »مركز للأفكار« في العالم، التي تختص بقضايا الاستراتيجية العسكرية والاستخباراتية حول الشئون الدولية، والأمن القومي، وإن كان نشاطها قد أصبح شديد التنوع، فأنشات فرعين يتبعانها، أحدهما بدولة قطر، والآخر في بريطانيا. ومن أهم تقاريرها عن العالم الإسلامي وأخطرها، تقرير عن »العالم الإسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر« عام 4002، وتقرير »الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والمصادر، والاستراتيجيات« عام 5002، وتقرير عن »بناء شبكة من المسلمين المعتدلين« عام 7002. ولا يعدم المستقرئ لهذه التقارير عن إدراك المكر السياسي، الذي تفضحه قرائن تفصح عن صحة الاستدلال أن التقارير تستهدف خلخلة المجتمعات الإسلامية من داخلها، وذلك بتحريض الكل ضد الكل، إذ مثلاً يشير تقرير »العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر«، إلي أن ثمة خارطة خلافات فكرية، وانقسامات طائفية، لها مضامينها في صالح الولاياتالمتحدة واستراتيجيتها؛ لذا يدعو التقرير إلي استثمار التقسيم الطائفي بين السنة والشيعة، بإذكاء الصراع بينهما، من خلال انحياز الولاياتالمتحدة بسياساتها إلي جانب الشيعة، كما تتبدي دلالات إحكام السيطرة داخليا علي تلك المجتمعات، من حرص التقرير واهتمامه بتقليص الجوانب الأكثر وضوحا للوجود الأمريكي، ببديل يتجلي في تكثيف وجود الاستخبارات، والعمليات النفسية، وذلك ما يعني مراقبة سلوك الأفراد والجماعات، وتفاصيل حياتهم، ومشاغلهم، وهمومهم من خلال سلطة مراقبة مجهرية، تستهدف النفاذ إلي أعماق السلوك بغية التأثير في رسم خطواته، وتوجيهه من الداخل. كما يترافق تقرير »بناء شبكات مسلمة معتدلة« مع الهدف نفسه، في ممارسة التحريض الفج لتشجيع الانقسام في صفوف الأصوليين، ويطالب بدعم التقليديين علي حساب الأصوليين، ويؤكد عدم تشجيع تحالف التقليديين مع الأصوليين، بل يصرح بوضوح أن دعم الأصولين ليس خيارا إلا لاعتبارات انتقائية، وتكتيكية. ولا شك أن تلك صيغة ممارسات لا تخضع لأنساق الاشتغال الفكري علي كل خطاب، ولا ترتكز علي منظومة قيم وقناعات فكرية، تؤمن بآفاق التداول والحوار؛ بل إنها محض ممارسات رجراجة، تحجب معني مختفيا يولد آليات التآمر، وأفخاخ التمزيق، والتفريق، والفتن، حتي يتآكل ذاتيا معني شراكة الوطن. ترانا أندرك مخطط مسار النار المغلقة، التي ندفع إليها جميعا بلا استثناء، ونحن غافلون حتي عندما يتشقق فينا كيان الوطن، فلا نسمع للوطن آلام احتضار؟ تري هل يدرك اللاعبون علي الساحة أن الشراكة في إدارة الوطن، تعني جهود قوي الوطن كافة ومصالحه، دون ميز، أو استحواذ، أو هيمنة، أو إقصاء؛ بل تستوجب الشراكة الاعتراف بالاختلافات التي بتعذر إزالتها وحمايتها اجتماعيا، كي تفلت من الاستعداء والإقصاء؟