كان نجاحاً أمريكياً لعصر كان يمكن فيه إخفاء الحقائق والتلاعب بوعي الشعوب، أما مع عصر السماوات المفتوحة وشبكات التواصل الاجتماعي فقد انكشفت عدم الكفاءة الأمريكية وإزدواجية المعايير البلد الذي قام علي فضيلة الحرية، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الإمبراطورية»، هكذا تحدث الرئيس الأمريكي السادس والعشرون «1901-1909» تيودور روزفلت في بدايات القرن العشرين. تري هل كان صادقاً فيما ادعي؟ حين ساوي مابين النزعة الإمبراطورية التي هي استعمارية بالأساس، وما بين الخطيئة التي هي وصمة في عالم الضمير والأخلاق؟ وللإجابة، علينا الإبحار عبر الزمن والسفر في التاريخ، تاريخ السياسات الأمريكية، وتاريخ العالم لنري مدي الصدق من عدمه، ولنحكم هل كانت هناك ضرورة حاكمة استدعت الخروج علي ذلك المبدأ؟ أم أنها كلمات قصد بها ادعاء البيوريتانية «التطهر والنقاء» وهي أفكار سادت هذا العصر الذي كان فيه الدين حاضراً في بنية العقل والسياسات الأمريكية؟ لقد جاءت الممارسات الأمريكية علي مدار السنوات اللاحقة لتجعل مقولته متأرجحة مابين الرفض والتصديق، إذ جمعت هذه الممارسات دائماً بين متناقضين شاغلا الفكر الأمريكي، وهما مفهوما الهيمنة والرسالية، أو الطموح الامبراطوري الاستعماري من ناحية الواقع العملي، والخطاب القيمي لرسالة الحرية من باب استكمال الشكل الأخلاقي لما له من أثر حاسم في لعبة القوي الكبري في محاولتها تصنيع التاريخ، لبلد افتقد فضيلة التاريخ وإن حفل بخطاياه وتجاوزاته في حق الحضارة التي استعمر أرضها وقتل وعذب شعوبها، بداية من الهنود الحمر، وصولاً لهاييتي وأمريكا الجنوبية وفيتنام وكوبا والصومال وفلسطين، وأفغانستان والعراق، وغيرها. نعم ثمة ثقوب واضحة في البنية المؤسسية للفكر السياسي الأمريكي، كان لها أبلغ الأثر فيما آلت إليه أحوال العالم والولاياتالمتحدةالأمريكية ذاتها، وكأن العمارة الأيديولوجية التي قامت عليها الأفكار المؤسسة للولايات المتحدةالأمريكية، قامت علي التلفيق والتوليف والجمع مابين مايمكن جمعه ومايصعب وضعه في معادلة واحدة مع نقيضه، حتي جري تشبيه ذلك، بأن ثمة مناطق نائمة في العقل الأمريكي، لاتصحو أو تفيق إلا لمشاغلة التاريخ ومخاتلة العالم والتلاعب بمقدرات الشعوب تحت شعارات براقة عن الحرية وحقوق الإنسان والعالم الذي صار قرية واحدة بحكم العولمة ووحدة المصير الإنساني، وهي مقولات لايقصد بها إلا تحقيق المصالح الأمريكية علي حساب الجميع، الحلفاء والفرقاء معاً سواء. كان هذا هو حال أمريكا عبر كل العصور، لكن فارقاً كبيراً بدا ملحوظاً في الآونة الأخيرة، إنكشفت معه كل الأقنعة التي غطت توجهات السياسات الأمريكية وعرت أهدافها، بفعل عدم كفاءة القائمين عليها والمروجيبن لها. تبدي ذلك منذ حكم حكم ليندون جونسون في ستينيات القرن العشرين، بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي. فلاتأسي علي أحوالنا حين تري في مواقع المسئولية من هم أدني كفاءة، فالولاياتالمتحدةالأمريكية ذاتها تعيش نفس المأساة مع فارق واحد أن لدينا رئيسا كف ءاومؤهلا وقادرا، ولديهم رئيس غير كفء وضعيف ومكشوف ومتآمر. فإذا كانت السياسات الأمريكية بنيت ومنذ الحرب العالمية وقبلها علي التناقض، إلا أنها استمرت طويلاً قادرة علي التأثير والخداع وكسب أرضية عالمية مؤثرة وناجحة بفضل كفاءات تاريخية ورجال دولة من طراز فريد حتي لو اختلفنا معهم في توجهاتهم وسياساتهم. الاستراتيجية الأمريكية واحدة ومنذ البداية، الإمبراطورية والرسالية، لكن المتغير هو الرجال والمسئولون. فأين رجال باراك أوباما ورجال جورج دبليو بوش من المحافظين الجدد NEWCONS، وبرنارد لويس، وليو شتراوس وأيرفين كريستيل، توماس فريدمان، ويليام سفاير، جورج ويل، تشارلز كراوثامر،رامسفيلد، ولفوويتز، وديك تشيني، حتيبيل كريستل مؤسس مشروع القرن الأمريكي الجديدPaxa- Americana، ومعهم مارجريت أولبرايت وكونداليزا رايس، أين هؤلاء الذين أسسوا لنظرية الفوضي الخلاقة CONSTRUCTIVE CAEOS والشرق الأوسط الجديد من عراقة المخضرمين أمثال جورج كينان مؤسس سياسات الاحتواء والحرب الباردة، والتر كرونكايت، وزبجينيو بريجنسكي، هنري كيسنجر الذي قام باحتواء الصين وتفكيك الاتحاد السوفيتي، ولن أذهب بك في التاريخ بعيداً إلي حيث جيمس مونرو 1823 ومبدأ مونرو في عدم التدخل أو التدخل الحذر في السياسات الدولية، أو مبدأ هاري ترومان 1947 من محاصرة النفوذ السوفيتي في المناطق ذات الثقل الاستراتيجي والاقتصادي للأمن الأوروبي، والدفاع عن اليونان وتركيا من الدخول في الأيديولوجيات السوفيتية، أو مشروع مارشال الأمريكي لإعادة تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والذي أسس للنفوذ الأمريكي المتناهي في الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن مبادئ ويدرو ويلسون الأربعة عشر عن السلام وحق تقرير المصير وجمعية عامة لعصبة الأمم ومنع التدخل في شئون الدول (إحياء لمبدأ مونرو) وإعلان حقوق الإنسان والمساواة. كان نجاحاً أمريكياً لعصر كان يمكن فيه إخفاء الحقائق والتلاعب بوعي الشعوب، أما مع عصر السماوات المفتوحة وشبكات التواصل الاجتماعي فقد انكشفت عدم الكفاءة الأمريكية وإزدواجية المعايير، والمناورات الصبيانية للصديق الأمريكي الذي يلاعب منطقتنا بالتخريب والترهيب والإرهاب تحت عناوين مضللة ماعادت تنطلي علي أحد، وماعدنا نصدق أنه جاد في محاربة الإرهاب الذي كان هو وراء صناعته وتأسيس روابطه وخالق فوضاه، فبدا الصديق كما العدو، وبدا إصطلاح الأعدقاء الأمريكان، أكثر قدرة علي توصيف الأصدقاء الأمريكان الذين يتصرفون معنا كما الأعداء. ولعلك تابعت مساء الإثنين الماضي جلسة مجلس الأمن التي رفع فيها وزير حارجية روسيا إصبع الاتهام في وجه الولاياتالمتحدةالأمريكية التي اتهمها بالتاسيس للفوضي في العالم وتهديد استقرار الأمن والسلم العالميين لتحقيق مصالحهم علي حساب مشروعية المنظمات الدولية وأولها مجلس الأمن الذي تحول لمجرد مطبخ يعد فيه الشيف الأمريكي وجبات غير ناضجة ولا مستساغة، وعلي الاتحاد الأوروبي والنظم الإقليمية إبتلاعها دون تألم أو تململ. ولقد كتبت لكم الأسبوع الماضي عن بدايات يقظة أوروبي حيال السياسات الأمريكية التي تهدد مصالح القارة الأوروبية ودولها ومؤسساتها. خلاصة القول أن الأعدقاء الأمريكان ماعادوا يقنعوننا بأفكارهم ومناوراتهم، وحسن فعلت الإدارة المصرية بالتحرر من ربقة الإملاءات الأمريكية التي تتصف بالرعونة والطفولية والكذب. ورحمة الله علي الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي الذي صك مصطلع «المتشائل» في روايته الساخرة الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، الذي هو من عرب فلسطين الذي لايعرف إن كان عليه التفاؤل أو التشاؤم، إذ أنه بين الحالين تحت الاحتلال وممارساته البغيضة كان يعيش، ولعل حبيبي في سخريته السوداء علي غرار فرانس كافكا، أعطانا تركيبة لغوية تستطيع دلالتها تجاوز رتوش الماكياج علي وجوه الأصدقاء الأمريكانالذين يتصرفون كما الأعداء، فصاروا بالنسبة لنا الأعدقاء الأمريكان، بلا كفاءة ولامصداقية.«إنَّ