إذا كان سلاح الدولة موجهاً لأعدائها، فإن سلاح الفساد موجه إلي الدولة نفسها!! الثلاثاء: وقوف موكب الرئيس السيسي، ولخبطة حسابات الأمن الفرنسي ليحيي الجالية المصرية التي وقفت تحييه وتعبر عن مشاعرها الودودة تجاهه، أمر غير وارد في المواكب الرسمية، ولكن الرئيس أراد أن يرد تحية أهله المتشوقين، ليس هذا فحسب وإنما ليثبت لكل الفرنسيين ولجميع الأوروبيين أننا أهل أمان، وأن هؤلاء الكذابين الذين رسخوا في ذهن الأوروبيين أننا في فزع دائم بسبب بطولاتهم الكاذبة التي ينشرون عنها ويسوّقونها بجميع الوسائل الإعلامية وغير الإعلامية، وأن كل ما يشاع عن نشرهم الخوف في بلادنا أو أننا نحسب لهم أي حساب هو محض افتراء ونكتة فجة. أوقف الرئيس موكبه، وبثقة حيا أهله الواقفين في استقباله وشاركهم بهجة اللقاء فمنذ أزمنة طويلة اختفي ذلك الود والإحساس بالأمان بين الرؤساء وجماهيرهم.. هؤلاء المحبون ليسوا أبناء فصيل سياسي أو ديني ينتمي له الرئيس، ولم يأتوا لتحيته لأن حزبه حزبهم أمرهم بذلك، بل دفعتهم المحبة الوطنية والرغبة الصادقة في المؤازرة وإرسال الرسالة الخفية التي تسلمها الرئيس ليرد عليها في هذا الوقوف العلني المفاجئ، وبالتحية المتكررة المطمئنة.. رسالة لكل من استمع وصدّق هؤلاء الأفاكين لصوص الوطن ليجلو عيونه من جديد ويعيد الرؤية برويّة ويعيد ترتيب الحقائق وينفي ما تنفثه الأفعي ذات اللحية صباح مساء!! الثورة المضادة اسمها الفساد الخميس: الفساد هو الثورة المضادة، هو الذي التهم هتاف الجماهير الزاحفة، وهو الذي طمس دماء الشهداء، وهو الذي ضيّق الميادين فطردت ثوارها. الفساد هو الراعي الرسمي للثورة، لا عدل في ظل الفساد، إنه يمشي بيننا ينشر سمومه في فحيح غريب ليثبّت الحياة كما تثبّت صورة علي جدار ديوانك. لم تغب صورة الفساد من علي جدران مصر ثانية واحدة، لم ترهبه ثورة، ولا ثورتان، لم يستح من حرارة ثوار الثورتين، فهو مستقر وكأنه وُجد قبل الدولة، وكأن الدولة غلافه الخارجي. الرئيس يبحث للأمة عن منافذ لدخول الضوء، وأظن أن ثمة بسمة ساخرة في طرف شفتي الفساد، وهو يعرف أن الفساد ليس في الحاكم الحالي، وإنما في الرسوخ الذي كرّسه حكام قاتلوا الفساد وغالبوه حتي غلبهم. يمشي الحاكم نقياً لا يلوث ثوبه أدران أو فساد، كلٌ علي قدر جهده ووعيه بدوره، عاصرنا الزعيم الشريف الذي لم يكن يأكل سوي الجبن الأبيض والذي مات مديناً ببقية أقساط مسكن لابنته، وعاصرنا من وقع في غرام الأشياء والأماكن والجدران وأوراق العُملة، فالفساد أفعي تحاول مرة إثر مرة الالتفاف حول من تقصده، لا تيأس، إن فشلت اليوم أو غداً فإن بعد غد لناظره قريب. الفساد عدو العدل هكذا يعلو أناس وتنتعش أحوالهم وتقوي وتتسع صلاحياتهم ويتحول كل ذلك إلي قوة هائلة تقف ضد تحقيق العدل، الفساد عدو العدل ولا يجب أن يسمع اسمه، فوجود العدل أو ظهوره علي الساحة يعني قتل الفساد، والفساد كما رأينا وعايشنا لا يسمح لأحد بأن يقتله أو يجبره علي الهجرة من موقعه!! أما الجماهير المصرية الفقيرة ومتوسطة الحال، فهي لا تفكر مطلقاً فيما يسمي العدل أو الدفاع من أجله، أقصي ما تملك من وسائل المقاومة هي الصرخة: «يا... نا... س حرام عليكم»، لا يعرفون ما هو العدل يصرخون: «إنتو ماتعرفوش ربنا»؟.. يصرخ بها لنفسه فلو سمعه الفاسد يقول ذلك لانغلق باب الرحمة نهائياً، الرحمة وليس العدل، إذ لا يؤمن الفاسد بأن للآخر حقوقاً وإنما إذا ما سمح له بتحقيق بعض مطالبه فإنما هو من باب الرحمة والعطف، وليس لأن المظلوم له حقوق، فلا حقوق في دولة الفساد، وإنما صغار الفاسدين قد يعوقون تحقيق آمال كبار وأهداف رؤساء ووزراء بل وأمة بأحزابها وطليعتها وأهلها جميعاً فوق وتحت الفساد أقوي من أي سلاح، وإذا كان سلاح الدولة موجهاً لأعدائها فإن سلاح الفساد موجه للدولة نفسها!! قالوا إن الحق فوق القوة، وفي موضوع الفساد فإن قوته فوق الحق، فكيف لا يأخذ الفقير حقه من الأغنياء ذوي المال والسطوة الذين يحميهم ويحمي أوضاعهم الفساد؟ هل يستطيع حق يملكه فقير أن ينتصر علي باطل يحميه قوي؟.. في زمن الفساد لا يمكن أن يتحقق عدل أو أن تتسق أوضاع الحياة كما يتمني الراغبون في العدالة، فقوة الفساد فوق كل حق، وفي ظروف كهذه لا يمكن أن يكون العدل فوق الحكومة، ولا يمكن أن يصبح الحق أساس الملك.. طالما أن الفساد مستيقظ للجميع دفاعاً عن مصالحه، والسلطات تتجنبه لتستمر!! لست فيلسوفاً ولا عالم اجتماع لألخص طبيعة الفاسد، وإنما أظنه شخصاً متمرداً علي واقعه ولكن بأحط وسيلة ممكنة، لا يسعي إلي تغيير هذا الواقع بالاجتهاد وتطوير ذاته وأدواته، وإنما كلصّ ماهر يستولي علي ما ليس من حقه ويعتبره حقاً أصيلاً، فيختلف عن طبقته بتميز مزيف في المأكل والملبس والسلوك، فيتحصن بتعالٍ مصطنع سرعان ما يصبح أصيلاً، ويحاول أن يفسد كل من حوله ليؤمن في داخله بأن هذا قانون الحياة وأن الحياة فُرص وهكذا لا يكره ولا يتناقض ولا يقاتل سوي الإنسان الشريف الذي يراه والفاسدون من حوله مصدر خطر عليهم فيحيكون له المؤامرات وينصبون الفخاخ حتي يجد نفسه ملقي به خارج أبنية المحاكم يبحث عن حق لا يعود أبداً، فالفساد له محامون وحراس وسراديب بيروقراطية ومسالك وممالك ومهالك يقع تحتها الإنسان غير الفاسد صريعاً أو كسيراً علي الأقل. المهم.. كيف نطهر بلادنا من فساد صار دم الجسد، يتدفق وينبض ولا حياة للدولة بدونه، ومن المحال انتزاعه سواء استعدت «نتفة» من الأراضي التي سلبت، أو الأبنية التي خالفت، والأوراق التي زوِّرت، والقوانين التي استخدمت في التدليس وصارت حارسة لمسيرة الفساد؟.. هل ثمة من شبر واحد في مصر إلا ويحاصره الفساد، وهل من الممكن أن ينجو إنجاز واحد أو عمل يخدم الأمة من الفساد؟ صار تراثاً وميراثاً، أسهم الحكام في ترسيخه وشجعونا علي التعامل معه بمحبة وتفتيح مخ وسعة صدر حتي صارت مصر كلها ترزح تحت أقدام فسادها وفاسديها، فمن سيخلصها ويخلصنا من فسادها وفسادنا، وكيف ستدار مصر إذا سحبت منها الطاقة التي تديرها منذ سنين وسنين والتي اسمها الفساد؟! ساعات.. ساعات الأربعاء: ظلت تمتدحني لمدة عشرين عاماً دون أن نلتقي ولم أسع لمعرفتها وهو مسلكي الدائم، وحين جمعتنا مناسبة عامة، اقتربت منها متردداً لأقول لها أنا فلان، حاولت الوقوف بصعوبة لتحيتي وأجبرتها علي الجلوس واندلعت تمتدحني. إنها السيدة «جانيت جرجس الفغالي» والتي رحلت منذ أيام، والتي نعرفها باسم «الفنانة صباح». ظلت لربع قرن تقول إن أفضل ما غنّت هي أغنية «ساعات.. ساعات» والواقع أن إعجابها بالأغنية من وجهة نظري هي أنها كانت معجبة بنفسها وبقدرتها في تلك السنّ علي أن يصل صوتها إلي تلك المساحات العالية التي لم تكن حاولتها في أغنية لها من قبل، وكانت تقول: «أنا اللي غنيت ساعات ساعات» وكأنها لم تغن من قبل وهي صاحبة ما يزيد علي الخمسة آلاف أغنية، ويقولون سبعة آلاف.. مر الزمن علي كل ما تغنت به وهي أغنيات رائعة بالذات تلك الأغنيات والمواويل اللبنانية التي أدخلتها إلي مصر منفردة أو بمشاركة الفنان «وديع الصافي» أو «نصري شمس الدين».. ما هيأ لنا أن نستمع بعد ذلك لفيروز ونفهم أغنياتها ونتجاوب معها بهذه الحميمية المطلقة.. لأول مرة نكتشف أن للبنان الجميل مواويل تضاهيه جمالاً، صدحت بها الفنانة الرائعة صباح في عشق ورغبة في أن نلتفت إلي لبنان وأن نعرف بعضاً من فنونه الراقية، ونعرف عن شعرائه الرائعين وموسيقييه الذين لا حد لخيالهم وخصوصية أصالتهم. نعم كان هناك نجاح سلاّم وسعاد محمد وفايزة أحمد بغض النظر عن الجانب السوري بها.. إلا أنها وفدت إلينا من لبنان أقصد فايزة أحمد وكذلك نور الهدي وغيرهن، ولكن عرفت صباح جيداً أن تقتسم فنها بالعدل بين المصرية واللبنانية ولم يكن لديها أية حساسية تجاه ذلك، فهي مصرية في مصر ولبنانية في لبنان. وقد لحن عبدالوهاب لها مجموعة مهمة من أغنياتها ربما إذا لم تخني الذاكرة إحداها كانت أغنية «ع الضيعة» التي يقول مطلعها: ع الضيعة يا امّه ع الضيعة ودِّيني.. وبلاها البيعة جينا نبيع كبوش التوت ضيعنا القلب ف بيروت يا شماتة شباب الضيعة أما قصة «ساعات.. ساعات» التي صارت تحتفي بها وتعلن أنها استطاعت غناءها، فهي واحدة من أغنياتي العاطفية الطويلة القليلة: سبقتها «أحضان الحبايب» لعبدالحليم، و«عيون القلب» لنجاة، وتلتها «قبل النهارده وطبعاً أحباب» لوردة. ول «ساعات.. ساعات» حكاية.. حين عاد د. جمال سلامة من بعثته لدراسة الموسيقي بموسكو وكان يسكن معي بنفس الشارع مما كان يتيح لنا اللقاء بصورة متتابعة، وكنت أصعد معه إلي شقته حيث البيانو، وكان يردد: «أنا عاوز اتعلم التلحين.. لن يعرفني أحد إذا ظللت أبدع السيمفونيات»، وكان قد قدم علي مسرح الأوبرا سيمفونيته عن مصر، وطلب مني كلاماً يلحنه، فأمسكت بقلم وورقة وكتبت له المطلع أو «المذهب» كما يحب أهل المهنة تسميته، وراح جمال يعمل عليه وتركته، وربما بعد ثلاثة أشهر أو أكثر التقاني وصاح: «لحنت الجزء اللي كتبته، مش عاوز تسمعه؟».. صعدنا إلي شقته واستمعت للمطلع وأعجبت به ويومها كتبت له الجزء الثاني منها، هكذا صرت أكتب جزءاً وأمشي حتي أتممت كتابتها وأتم تلحينها تقريباً في عام. بالطبع كان لي ملحوظاتي من واقع خبرتي مع الملحنين وكان يستجيب لها غالباً، ظلت هذه الأغنية بيننا لمدة خمسة عشر عاماً، يستمع المطربون والمطربات لها ويحبونها ويهربون من غنائها، فالأغنية طويلة وبها معان والمطربون أكثر من يهربون من نص به معان، رحم الله فنانينا الكبار!! وكان بالفعل لابد من مطرب كبير و«قديم» لهذه الأغنية وإلا ستظل حبيسة أدراج د. جمال سلامة، وقد مضي عليها طويلاً في أدراجه.. حتي قيض الله لنا المخرج «أحمد يحيي» وكان يفكر في عمل فيلم لصباح وكانت مغامرة منه، ووقعت أذناه علي «ساعات.. ساعات» فوقع في غرامها وأعطيناها له بتراب الفلوس، إذ كانت كالذهب المدفون في التراب لا يكتسب قيمته إلا حينما يستخرج، لم أحضر تسجيل الأغنية فقد كنت في تونس، ثم عرض الفيلم في دور السينما ثم في التليفزيون، وشيئاً فشيئاً اكتشفت الجماهير الأغنية لتصبح أهم أغنية للفنانة صباح، ثم أصبحت «تيتراً» لمسلسل الشحرورة لنتقاضي جمال وأنا ما لم نتقاضه من المخرج المنتج أحمد يحيي، ورحلت الفنانة الرائعة وهي تشيد بنفسها وأنها استطاعت أن تتألق في المساحات الصوتية العالية التي هرب من مواجهتها معظم المطربات!! يحب الشعب العربي ومعهم المصري طبعاً للمرأة حين تبلغ سناً معينة أن تلزم بيتها، وأن تلبس ملابس «حشمة» وحبذا لو غرقت في اللون الأسود، ولا تخرج إلا للعزاء، ولكن الفنانة صباح شأن الأوروبيات كسَرت القاعدة وراحت تستمتع بعمرها يوماً يوماً، بل صارت تبالغ في ألوان فساتينها دون التفات لهؤلاء الرجعيين من وجهة نظرها لقد رأينا أوروبيات في سن صباح وأكبر من صباح يضربن الأبيض والأحمر في وجوههن ويلبسن ملابس شبابية بالنسبة لنساء الصعيد بأكمله والدلتا أيضا، كنا نشاهدهن وهن يريضن كلابهن قبل حلول المساء وكأنهن ذاهبات إلي حفل، فلماذا يكون الاحتفال بالسنوات حين تكثر بلبس الأسود؟ لم تفعل صباح أكثر من استمتاعها بالهبة التي اسمها الحياة، فكانت حريتها وزيجاتها وصراحتها وملابسها حديث الجمهور العربي علي اتساع الخريطة، وكانت دائماً تبتسم وتقول: «أضحك وألعب زي عصفورة ربيع زي النسيم.. زي النسيم ما يعدي وف لحظة يضيع أضيع.. أفرح قوي وأضحك قوي وأحب عمري وأعشق اليوم اللي آت ساعات..» وداعاً فنانتنا الرشيقة الرائعة «جانيت جرجس الغفالي» والتي نطلق عليها اسم «صباح»!!