نادين لبكي فنانة متميزة جداً. ومخرجة مبدعة فعلاً. إنها طبعة عربية فريدة بلغة عالمية يتفاعل معها عشاق السينما أينما كانوا.. فهي مخرجة وممثلة ومؤلفة ومخرجة فيديو كليب عملت مع كل المطربات اللبنانيات الشهيرات: نانسي عجرم. نوال الزغبي. ماجدة الرومي. نيكول سابا وكارول سماحة ونورا رحال.. الخ. وفيلمها المعروض في القاهرة الآن "وهلا لوين" بمعني "والآن إلي أين؟" يدعم هذه الشهادة التي أقدمها بموضوعية وامتنان حقيقي مقابل المتعة الخالصة التي منحتني إياها من خلال هذا الفيلم الرائع الذي يعتبر تجربتها الثانية في مجال الفيلم الروائي الطويل بعد فيلم "كراميل" "2007". الفيلم إنتاج مشترك مع مؤسسات ثقافية فرنسية ولكنه لبناني الروح والثقافة والموضوع.. أنه يتناول وجع عميق وجراح قديمة متجددة لم تندمل في الجسد العربي. ليس في لبنان فقط وإنما هنا ايضا في مصر. وفي العراق والشام وأينما تدب رجلاك علي الأرض من المحيط إلي الخليج. أقصد الصراع الطائفي الذي يقضي علي الحب والحياة والسلام والتي كلما ضمدت نيرانه أشعلها المستفيدون من لهيبها. الخائفون من وحدة شعوبها. المفارقة والعبقرية أن هذا الموضوع الملتهب يعتبر تجربة فنية خفيفة الظل جداً تمزج البكاء بالضحك في إطار توليفة تراجيكوميدية اجتماعية بامتياز مع رسالة صريحة قوية تصل إلي القلب مباشرة ومن دون إبطاء!! لقد ضحكت وبكيت وأمتزجت الدموع بالقهقهة بينما أتابع هذه الشريحة الحية من الحياة في ضبعة لبنانية فقيرة تعيش الموت وتصنع الحياة وتتحايل بشتي الطرق علي صنع السلام في بيئة أصيبت بمرض الطاعون السياسي الاجتماعي ألا وهو الفتنة الطائفية والحروب الأهلية. قيمة الفيلم في جمعه البليغ بين البساطة والعمق وفي البطولة الجماعية والتواصل التلقائي السريع والمباشر ليس فقط مع جمهوره العربي الذي يفهم بالتأكيد روح الدعابة وحلاوة اللهجة ودلالة الحوار والخلفية الثقافية لسكان هذه الضيعة. وإنما أيضا مع جمهور العالم الغربي الذي استقبله بحماس ومنحه الجوائز في المهرجانات الدولية من "كان" في فرنسا وحتي "تورنتو" في كندا. والمؤكد ان السبب الرئيسي في نجاحه يعود إلي المعالجة الفنية الممتعة لموضوع معقد.. والمفارقة المؤسفة ان الفيلم معروض هنا في القاهرة ويعاني من غياب الإقبال الذي يستحقه ربما لأنه لم يحظ بالدعاية التي يستحقها.. الأول والأخير من المشهد الأول وحتي الأخير تعيش بكل حواسك مع أهالي الضيعة "القرية" اللبنانية الصغيرة المعزولة في حضن الطبيعة وهم مجموعة من الأسر المسيحية والمسلمة نساء ورجال وشباب وأطفال. البيوت متجاورة والتفاعل اليومي حاضر وفعال وكما لو كان الجميع سمن علي عسل. في حين تتواري مشاعر الاحتقان والتوتر والخوف وراء الرغبة القوية في التعايش واجتناب العراك الذي يموت بسببه الرجال.. خاصة ان ذكريات الحرب الأهلية تلقي بظلالها لا تزال.. النساء في الفيلم هن أسياد الموقف.. وهن ربات العيش وأكسير الحياة وهن من ينسجن الحكايات الرومانسية والميتافيزيقية ومن يتوسلن إلي العذراء ويتواصلن مع "تمثالها" الذي يبكي بدل الدموع دم حين تحل بالأمهات كارثة فقدان الابن. الشيخ والقسيس يعظان الجميع بالمجتمع ويوصيهما بالمحبة والسلام والاخوة فهل ينجح الدين؟؟ الكورس في التراجيديا اليونانية تبدأ المخرجة الفيلم بمشهد يذكرنا بالتراجيديا اليونانية حيث يظهر جمع كبير من نساء القرية يسرن متجاورات يتشحن بالسواد ويسرعن الخطي في اتجاه المقابر حيث ترقد جثامين ضحايا الحرب من أبناء الضيعة من كلا الديانتين. التكوين داخل الصورة مع اللون والموسيقي وإيقاع الحركة الجماعية للنساء وسط أجواء الطبيعة المحيطة يشيع احساساً بالجلال ويشحن عملية الفرجة فننشد ظهورنا إلي الكرسي في صالة العرض منتبهين! هذا المشهد البديع ذاته يتكرر في نهاية الفيلم ولكن مع النساء والرجال ونعش محمول علي الأكتاف لضحية جديدة في طريقها إلي مثواها الأخير في مدافن القرية التي تنقسم علي جانبي الطريق بين مدافن خاصة بالمسيحيين وأخري للمسلمين.. انها جنازة الشاب حمودي المسيحي الذي اغتيل علي يد جاره المسلم علي إثر مشاجرة. ولكن الأم الملتاعة بفقدان ابنها المرعوبة علي الابن الثاني تخفي نبأ مقتله حتي لا يتأجج الصراع الطائفي من جديد. وبعد أن تنكشف الحقيقة ينسج النساء في القرية حيلة مدهشة لمحو هذا التمييز الطائفي القاتل فيقررن عمل فطائر معجونة بالحشيش والحبوب المخدرة بعد سحقها. وأثناء النوم يبدلن مواقع الأزواج بحيث ينام المسيحي في بيت جاره المسلم والعكس. وتستبدل المسلمات ملابسهن بملابس المسيحيات جيرانهن والعكس. يحدث كل ذلك في جو من المرح والفكاهة والأداء الكوميدي الراقي والمبهج.. والآن إلي أين يتوقف الجمع في جنازة "حمودي" أمام الطريق الفاصل بين مقابر المسيحيين والمسلمين. ويسأل أحدهم الذي يحمل النعش: "هلأ لوين". يقول آخر إلي أين نتجه.. وأين ندفن حمودي؟ وذلك في رسالة بسيطة جدا وبليغة تشير إلي ضرورة إلغاء هذا الفصل. أو ان هذا التمييز لا معني له حين يأتي الموت ويدفن كل منا في باطن هذه الأرض بسبب هذه الحروب. تلعب نادين لبكي شخصية "آمال" الأرملة الفاتنة والمفتونة بواحد من شباب القرية الذي يقوم بدهان جدران المحل الذي تمتلكه ولكنها لا تؤدي بطولة مطلقة بل تقف في واسطة العقد الذي يضم "ايفون" "ايفون معلوف" الشخصية الرائعة من حيث خفة الظل والتفكه والسخرية. وعفاف "ليلي حكيم" الرصينة وفاطمة "انجو ريحان" المسلمة المحجبة المفتوح قلبها للحب والتسامح بالإضافة إلي الرجال الأزواج والشباب الصغار وغيرهم ممن يسكنون الضيعة وهم في مجموعهم يشكلون لوحة إنسانية تجذبك. وتصدقها وتضحك معهم وتبكي أمام مآسيهم. فكل شخصية ملامحها المرسومة خطوطها العامة "بريشة" فنان والجميع لا يمثلون في الحقيقة بل تخالهم يرتجلون أدوارهم فالعفوية ملمح أساسي في الأداء التمثيلي والمصداقية سمة تكرس الاحساس بعذوبة الفيلم.. ويفرد السيناريو لكل واحدة من هؤلاء النسوة مشهدا تبرع فيه بقوة. علي سبيل المثال "ايفون" وهي تتدعي التواصل مع السيدة العذراء التي تملي عليها ما يجب أن تفعله في مشهد بالغ الطرافة والظرف. "وآمال" وهي تصرخ في الرجال بينما يشتبكون في عراك عنيف تذكرهم بالحزن القائم الذي يخلفونه لأمهاتهم ولأقربائهم بهذه الحرب. والسيدة الثكلي التي تنتحب حزنا وتشتبك مع تمثال العذراء تذكرها بأنها أم وكان لها ابن "المسيح عليه السلام" وفاطمة وهي تسخر من زوجها وقد خلعت غطاء الرأس وانتحلت شخصية جارتها المسيحية. هذه المهارة البالغة في مزج الملهاة بالمأساة وهذه الروح الخفيفة التي تطغي علي العمل ككل تظهر أيضا أثناء زيارة فرقة الراقصات الأوكرانيات اللاتي جئن ينشدن إقامة سالمة في الضيعة ويلهون رجالها ويقدمون لنا نحن المشاهدين "فصولا" من الترفيه الراقص والدعابة الظريفة عندما تشتبك الواحدة منهن مع أحد شباب الضيعة ثم تعليق ايفون الساخر من نحافتهن ونهودهن الصغيرة!! لقد توفرت لهذا الفيلم "هلأ لوين" عناصر النجاح التقليدية ولكن بأسلوب غير تقليدي بالمرة ومن بينها الأغنيات الجماعية "أغنية الحشيش" المدهشة مع صور النسوة الجماعية أيضا وهن يعجن ويخبزن ويشدون في أجواء احتفالية دافئة. أيضا الحوار الذكي والمؤثرات الصوتية. وكلمات الأغاني التي تعمق الاحساس بالسرد الدرامي وتضاعف التأثير العاطفي للمشهد.. فالأغنية والموسيقي ترتبط عضويا بالأفكار التي يطرحها الفيلم. وتتفق مع الطبيعة الغنائية الرعوية الآسرة التي تميزه فضلا عن أماكن التصوير الطبيعية والصورة النقية الصافية. ولو كان لي أن أختار أفضل فيلم عربي لعام 2011 لاخترت دون تردد فيلم المخرجة نادين لبكي "هلأ لوين" ليس فقط لموضوعه وفنيته وانما أيضا كعمل فني عربي يضع المرأة في مرتبة متقدمة في عملية صناعة الحياة وفي صنع البهجة ثم توظيف الفيلم لرسالة اجتماعية جادة. أتذكر فيلمها الأول "كراميل" أو "سكر بنات" الذي قامت بتأليفه مع نفس الطاقم تقريبا ونفس المؤلف الموسيقي الموهوب خالد مزنر الذي صار زوجها.. فضلا عن نفس النجاح الدولي.. فالمخرجة الموهوبة استطاعت أن تبدع بمفردات اللغة السينمائية. لغة عالمية يتجاوب معها الجميع.