وتسأل نفسك لماذا يعاني هذا البلد اقتصاديا وأمنيا، طالما لديه هذه «الجمهرة» من الخبراء: الاقتصاديين، والسياسيين، والأمنيين، والتعليميين والاستراتيجيين.. إلخ في فيلم من كلاسيكيات السينما المصرية وهو:»أم رتيبة» يطلب أخوها من خطيبها «سيد بنجر» أن يغير اسمه، لأن الأخ لايحب البنجر، يفكر سيد قليلا ثم يتفتق ذهنه عن أن يغير اسمه إلي أحمد بنجر! وحين يسأله الأخ عن وظيفته يقول له: «خبير طرشي»، توارد علي ذهني هذا المشهد من الفيلم وأنا أشاهد ماأسفرت عنه حملات المرور في الأيام الماضية، فمن سائق يدخن «الشيشه» وهو يسوق عربة نقل، إلي مشهد لايمكن أن تراه إلا في المحروسة: جرار زراعي يجر عربة أشبه بمقطورة صغيرة، يسير بها علي الطريق العام. داخل المقطورة ستلمح رؤوسا صغيرة متلاحمة لأطفال، في سن الحضانة، وقد تكدس بعضهم فوق بعض، علي جدران المقطورة الإعلان التالي: «حضانة الشروق «الإسلامية»؟! كمبيوتر لكل فصل، تعليم القرآن الكريم!» وبالرغم من أن المثل يقول: «الحاجة أم الاختراع» فإنك قد تنبهر مثلي ويقفز إلي ذهنك حسن فايق وهو يقول: طب نخليها أحمد بنجر، وهو الإبداع الفذ الذي يبرر إلصاق صفة «إسلامية» بحضانة تشحن الأطفال كأنهم «شوال بطاطس» وتوفر لهم كومبيوترات في الفصول، بينما لاتوفر لهم سيارة تذهب بهم من وإلي الحضانة، ناهيك عن استخدام لافتة تعليم «القرآن الكريم» لجذب الزبائن. ولأنني لاأريد أن أعكر علي حضراتكم النكتة، سأضطر إلي تجنب الحديث عن الطفل الذي عاقبه أحد المدرسين؟! (لأن الطفل رفض أن يمتثل لعقاب جماعي للفصل)، بالضرب والركل، ثم تصاعد لتسخين ملعقة وكي لسان الطفل بها أمام أقرانه المذعورين كي يتعلم أن يمتثل للإذلال! فكرت في أن طفلا من هؤلاء قد تعرض أيضا لمثل هذا التعذيب دون أن نسمع به، ونحيت الفكرة قليلا. في الليلة نفسها راودتني جملة: «خبير طرشي»، وأنا أشاهد برامج التوك شو، حين استدعت مذيعة شهيرة «خبير أمني»! (كان يعمل لواء سابقا) وسألته أسئلة رفض أن يجيب عليها لدواع أمنية (بإيماءة العالم ببواطن الأمور!) مما اضطر المذيعة للاتصال بأحد المتخصصين ليجيب عن أسئلتها، هاج الضيف وماج، لأنها كما قال»تتجاهل» حضوره، وأضاف: «هو أنا خريج زراعه يعني عشان تسألي حد تاني؟!». يتجاوز الأمر حدود النكتة وأنت تقلب في البرامج، وتسأل نفسك لماذا يعاني هذا البلد اقتصاديا وأمنيا، طالما لديه هذه «الجمهرة» من الخبراء: الاقتصاديين، والسياسيين، والأمنيين، والتعليميين والاستراتيجيين،..إلخ. وتكتشف أنهم متلاحمون تماما علي الفضائيات كرؤوس الأطفال المشحونة في عربة البطاطس ،عفوا: الحضانة، وبدلا من كومبيوتر لكل فصل يحمل كل شخص «آيباد» يقلب فيه وهو يتكلم، أو يشوح به وهو يتشاجر، يتجاوز الأمر أيضا حدود النكتة حين تقلب القنوات مرة أخري، هربا من كل هذه الضوضاء، لتعثر علي قنوات لم ترها من قبل، فتري إعلانات تتصدر الشاشة عن الفحولة وأعشاب القوة الذكورية وعلي خلفيتها تلاوة قرآنية! بل إنك قد تعثر مثلي علي قناة باسم «شامبو...» للقرآن! فتعرف الوظائف التي قد يشغلها أطفال الحضانة متعلمو القرآن، في مستقبلهم الزاهر! إذا أطفأت كل هذا الضجيج وجلست مثلي في البلكونة ليلة خميس كالتي أكتب فيها هذا الكلام، ستفزعك أصوات»شماريخ» وستظن أن مظاهرة إخوانية قادمة في الطريق، ثم تسمع صوت زغاريد فتطمئن قليلا، لكنك ستتساءل مثلي: لماذا تعيث الشماريخ في سماء المدن ليلا؟! ولماذا يغض الأمن النظر عن شماريخ دون شماريخ؟! لايمكنك أن تغلق الموبايل هوالآخر، فتنتفض، في هذه الجلسة الهادئة، علي رنين رسالة:عاجل، إصابة 11 شخصا من جراء انفجار قنبلة في عربة المترو، فتداهمك صور أطفال عربة البطاطس، والشماريخ، وسيد بنجر، وخبير الطرشي، وتهرع لتطمئن، وتضطر كي تفهم، أن تفتح التليفزيون، لتشاهد كل ماشاهدته مرة أخري!