«بعد فتح الطريق إلي السويس 19 يناير 1974، وصلت فجراً إلي المدينة، لمحت أصدقائي الفدائيين، قبل أن نتعانق، قال أحمد العطيفي: بقينا حداشر، فعرفت باستشهاد أربعة» عام 1969، زرت السويس لأول مرة، وطبقاً للإجراءات المتبعة في ذلك الوقت كان الصحفيون المتخصصون في الشئون العسكرية يعتمدون من إدارة الشئون المعنوية، وإدارة المخابرات الحربية، وللسفر إلي الجبهة، لابد من الحصول علي تصريح من المجموعة المسئولة عن الإعلام في المخابرات الحربية، ثم يتم التوجه إلي القطاع المطلوب إجراء التحقيق الصحفي أو المتابعة فيه، وبمجرد الوصول إليه يكون أول اتصال مع مكتب المخابرات الحربية، كان الوقت رمضانياً، في مكتب محصن تحت الأرض التقيت العقيد وقتئذ بدر حميد قائد المخابرات في القطاع الجنوبي، ومنذ هذا اللقاء بدأت صلة قوية تعمقت مع الزمن، أدام الله عليه الصحة وشفاه من عثرات العمر، هو من الهلايل في سوهاج، فيه كل مقومات الفروسية، شهم، شاعر، شجاع، من الضباط الأحرار، كان ملازماً عند قيام ثورة يوليو، حاصر قصر عابدين بمدافع 13 رطلا، وصور هذا الحصار معروفة في ذاكرة يوليو البصرية، أخبرني أنه سيخصني بلقاء خاص جداً مع مجموعة من أبناء السويس، تم اختيارهم بعناية، وتدريبهم علي الأعمال الفدائية للقيام بمهام خاصة خلف خطوط العدو، كان ذلك أول لقاء صحفي معهم، كانت المدينة قد تم تهجير أهلها فيما عدا مجموعة قليلة اقتضت الظروف بقاءهم، وآخرين رفضوا التهجير، للسويس ملحمة كبري في الصمود، وأذكر أن الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ المرموق قد كون مجموعة عمل أقامت في السويس بعد فتح الطريق عام 1974 وجمعوا شهادات من أهالي المدينة الذي عاشوا حربي الاستنزاف وأكتوبر، في إحدي المدارس المهجورة جري اللقاء بالمجموعة، استمعت إليهم ساعات ودونت تفاصيل أول عملية قاموا بها في منطقة الشط وعادوا بعدها بأسير إسرائيلي، بدأت صلة قوية بيني وبينهم، مستمرة حتي الآن بالتحديد مع اثنين منهم، الفدائي أحمد العطيفي، والفدائي محمد قناوي الذي أمضي مائة وأربعة وثلاثين يوماً في جبل عتاقة خلال الحصار يقتات أوراق الأشجار ويشرب قطرات الندي، وعندما نزل إلي السويس بعد الحصار، أقبل علي زملائه فلم يعرفوه لتبدل ملامحه ونقصان وزنه، كان موقفاً بالغ التأثر، لقد كتبت قصة عن أيامه في الجبل التي كان يقوم فيها بمهمة استطلاعية، قصة «ريح الجبل» متضمنة في المجموعة القصصية «حكايات الغريب» التي تحولت منها قصة واحدة إلي عمل درامي أخرجته الفنانة أنعام محمد علي، مازلت أذكر تجدد لقاءاتي بهذه المجموعة الفريدة من أبناء السويس، عندما فتح الطريق في 19 يناير، وصلت المدينة فجراً، لمحت أحمد العطيفي طويل اللحية مثل الآخرين، لم يكن هناك ترف مائي يكفل حلق الذقون أيام الحصار، قال قبل أن نتعانق: بقينا حداشر .. سألت من؟، قال: إبراهيم سليمان، السيد أبو هاشم، فايز حافظ وأشرف عبدالدايم.. استشهدوا جميعاً في معركة قسم الأربعين. قبل أن أقوم بأي تقص طلبت الذهاب إلي مراقدهم، اصطحبني أحمد إلي جبانة الشهداء التي أعدت علي عجل، قرأت الفاتحة وهذا شأني كلما نزلت السويس منذ ذلك الوقت الذي يبدو الآن بعيداً، أعد الآن لإصدار كتاب يحوي بعضاً من مشاهداتي وأوراقي، دافعي أن الفترة طالت، وأن النسيان يسود، والذاكرة الوطنية تعددت فيها الثقوب، أتوقف في اليوميات عند معركة السويس، خاصة دور هذه المجموعة التي عرفت عملياتها باسم «منظمة سيناءالغربية»، وبالتحديد عند معركة قسم الأربعين، سأنشر هذا الأسبوع الرواية المصرية كما قمت بتسجيلها، والأسبوع القادم سأنشر الرواية الإسرائيلية كما وردت في كتاب «التقصير» الذي ترجمه في بيروت بعد أكتوبر 1973 مركز الأبحاث الفلسطيني، والذي كان يعد مؤسسة ثقافية وسياسية مهمة تصون ذاكرة فلسطين ولا أعرف مصيره الآن، أرجو من القارئ أن يحتفظ بهذه اليوميات إلي الأسبوع المقبل وأن يقارن الشهادتين. شهادة مصرية بدأ خرق وقف إطلاق النار من جانب العدو الإسرائيلي يوم 22 أكتوبر، بالتحديد ليلة 22 23، حرك قواته في اتجاه مدينة السويس بقصد الاستيلاء عليها، وبالفعل استطاع الوصول إلي مشارف المدينة عند بدايات ليلة 23 أكتوبر، حيث أحاط بها من طريق «القاهرةالسويس، الصحراوي، وطريق المعاهدة الذي يصل السويس بالاسماعيلية، وطريق الزيتيات المؤدي إلي ميناء الأدبية، والطريق المؤدي إلي الجناين». وضح أن السويس أصبحت هدفاً رئيسياً للعدو حيث تجسدت فيها عدة عوامل معنوية ومادية، فالمدينة ذات اسم تاريخي عريق، مرتبط بكثير من الأحداث المهمة القريبة والبعيدة وهذا يمنحها وزناً عالمياً، بالإضافة إلي موقع المدينة الذي سيمكن العدو من إكمال حصاره لقوات الجيش الثالث الميداني الذي كانت تحارب وحداته في الشرق. وعندما بدأ العدو الإسرائيلي هجومه علي المدينة بغرض الاستيلاء عليها، تصدي له رجال قواتنا المسلحة، أبناء مدينة السويس الذين تطوعوا للعمل الفدائي منذ حرب الاستنزاف، اشترك أيضاً في الدفاع عن المدينة أفراد من الشرطة، وأهالي المدينة، والوقائع التي نسردها فيما يلي تستند إلي شهادات واقعية أدلي بها عدد من المقاتلين أبناء السويس، وهم من بين الذين لعبوا دوراً أساسياً في التصدي للعدو الإسرائيلي، والحيلولة بينه وبين احتلال السويس.
يوم 24 أكتوبر ماذا جري؟ في اليوم السابق كان عدد كبير من الأهالي سكان منطقة الجناين، والقري الصغيرة الواقعة غرب القناة، قد دخلوا السويس، كان العدو أثناء تقدمه الذي بدأ منذ ليلة 22 أكتوبر وقف إطلاق النيران قد بدأ يرتكب عمليات انتقام بربرية ضد الفلاحين والمدنيين، وجنود المؤخرات العاملين في الشئون الإدارية والذين يتواجدون عادة خلف الخطوط، وكانت السويس هي المدينة الكبيرة القريبة التي ذهب إليها الفلاحون بنسائهم وأطفالهم ومواشيهم، ومن طاردتهم القوات الإسرائيلية، وطوال هذا الوقت تعرضت السويس لعمليات قصف شديدة بواسطة الطيران والمدفعية. وابتداء من الساعة السادسة والنصف صباح 24 أكتوبر بدأ العدو يقصف المدينة بالطيران والمدفعية، إذ صبت قذائف الطائرات علي جميع أنحاء المدينة خاصة منطقة حي الأربعين، وركزت المدفعية علي اتجاهات مختلفة، لكن لوحظ أن دانات المدافع وقصف الطيران يتم علي جانبي الطريق المؤدي إلي المدينة من مدخلها الذي يقع المثلث عند بدايته.. وقدر الرجال أن اقتحام المدينة سيتم بالعرض، وتحت القصف الجوي قام الرجال بتوزيع أنفسهم في كمائن. كان أول كمين عند المنطقة المواجهة لسينما رويال، ضمن هذا الكمين ابراهيم سليمان والمقاتل أحمد العطيفي والمقاتل محمد سرحان والمقاتل ابراهيم سويف، وكان هناك كمين آخر عند كوبري البراجيل يقوده أحمد أبو هاشم. استمر قصف الطيران حتي الساعة العاشرة والنصف صباحاً، وكانت الحرائق قد اشتعلت في منطقة وسط المدينة، وكثير من البيوت تهدمت، وكان الصمت الثقيل يخيم علي المدينة، صوت الترقب والغموض الذي يحيط الحرب، وكان منظر المدينة يوحي للناظر إليها من الخارج أن المقاومة بها قد انتهت، وكانت بعض طائرات العدو الهليوكوبتر قد حلقت فوق المدينة، أما الطائرات المقاتلة القاذفة الإسرائيلية فقد اختفت بعد أن استمر القصف الوحشي لمدة أربع ساعات ونصف الساعة، وكانت هذه الطائرات تهاجم المدينة علي ارتفاع منخفض جداً، وكما يقول أحد الرجال «كان متهيأ لي أن الطيران بيمشي في الشوارع» وذلك بقصد إحداث الرعب في النفوس بالإضافة إلي التدمير. الساعة 10٫55 بدأ الاقتحام الدبابات الإسرائيلية تقصف جانبي الطريق الرئيسي المؤدي إلي داخل المدينة، وهنا لنصغ إلي المقاتل محمود يصف الوقائع من وجهة نظره وكما رآها: بدأت المجموعة الأولي من دبابات العدو في اقتحام المدينة، كان الكمين الأول الذي يضم ابراهيم سليمان في دشمة خرسانية بين مجموعة مساكن قريبة من قسم الأربعين، كان واضحاً أن العدو يهاجم المدينة بواسطة موجات، وكانت الموجة الأولي مكونة من دبابة وعربتين نصف جنزير، اقتحمت بأقصي سرعة، أطلقت من القاذف الصاروخي طلقة علي الدبابة، لكن سرعتها العالية حالت دون وصول الطلقة إلي المكان الذي من المفروض أنني أصوب عليه وهو الجزء الذي يصل بين برج الدبابة وجسمها، لم تصبها الطلقة في مقتل، ضربت الدبابة دانة أثناء اندفاعها أصابت الساتر الحجري الموجود أمام شركة النقل، وفي هذه اللحظات كنت غيرت بسرعة مكاني الذي أطلقت منه المقذوف علي الدبابة كما تقضي بهذا القواعد. في هذه اللحظة، أطلق المقاتل أحمد العطيفي مقذوفاً أصابها في البرج، غير أن الإصابة لم تكن شاملة، في نفس الوقت، كان اللهب المنبعث من المدفع قد أصاب يد المقاتل أحمد، وهنا تناول ابراهيم سليمان منه المدفع، استدارت الدبابة وعربات النصف جنزير هاربة، ولاحظنا أن عربات النصف جنزير التي كانت مصاحبة للموجة الأولي بها «دمي» علي هيئة جنود، كما كانت ترفع أعلاماً مغربية وجزائرية. بدأ تقدم موجة الهجوم الثانية، كان هذا طابوراً مدرعاً مكوناً من 3 دبابات و12 عربة مدرعة وعدة عربات نقل تحمل الذخيرة والمؤن، كانت الدبابة التي في المقدمة ضخمة جداً، من طراز سنتوريون، كان إبراهيم سليمان قد اختفي وراء شجرة ضخمة، وكان قد أقسم أثناء أحد تدريباته أنه لو تصدي لدبابات العدو فإنه سيضربها علي بعد عشرة أمتار، كان ابراهيم يلبس نظارة طبية، وفعلاً من هذه المسافة القصيرة أطلق ابراهيم قاذفه الصاروخي، أصيبت الدبابة، ومشت حوالي 12 متراً باضطراب ثم توقفت، رأيت البرج يستدير علي ميل في اتجاه الخندق الذي يكمن به المقاتل أحمد ورفاقه، كانت المسافة قريبة جداً، وكان اتجاه المدفع محدداً، ورأيت هذا المنظر فأخفيت عيني بباطن كفي حتي لا أري دانة المدفع وهي تفتك بزملائي، ولكن حدث أن مال مدفع الدبابة إلي أسفل ميلاً بسيطاً وخرجت الدانة لتستقر في الردم الموجود بعيداً عن الخندق، لم تنفجر... وهنا ينطلق المقاتل محمود عواد من مكمنه، يعبر خط السكة الحديد، يقفز فوق الدبابة المصابة، يلقي داخلها بقنبلة، كان السائق في الداخل قد بترت رأسه عن جسده بعد الطلقة التي أطلقها ابراهيم سليمان، كان أفراد الطاقم في حالة رعب شديد، يحاولون شد بعضهم إلي أعلي للخروج من الدبابة المصابة، إذ أن السنتوريون لا يوجد بها فتحات تحتية تمكن الطاقم من الهروب، اشتعلت النيران في الدبابة، وبدأ الرعب يظهر علي الجنود الإسرائيليين الذي كانوا يركبون العربات المصفحة، راح سائقو هذه العربات يبتعدون، بسرعة، في محاولة مضطربة خوفاً من انفجار الدبابة، كانت هذه أول دبابة يتم تدميرها من الطابور الإسرائيلي المدرع الذي هاجم المدينة، ولاتزال هذه الدبابة ترقد محطمة أمام قسم الأربعين فوق خط السكة الحديد المؤدي إلي الزيتية، بينما توجد مقدمتها علي بعد حوالي 12 متراً من مبني القسم، وهو المكان الأصلي الذي أصيبت فيه، ورقم هذه الدبابة كما رأيته علي اللوحة المثبتة بها 814266. مقاومة شاملة عند مشارف المدينة، كان رجال القوات المسلحة، في هذه اللحظات، يشتبكون مع جنود العدو، وكان بعض الجنود وأهالي المدينة قد هاجموا عربات النقل التي تحمل المؤن والذخيرة، وتمت إبادة هذه العربات بأكملها، ومازال حطامها، أو بقاياها توجد عند مدخل المدينة. وفي داخل المدينة، كان تدمير الدبابة الإسرائيلية قد حول الموقف. عرف الجميع أن الدبابة قد دمرت، وأن الجنود الإسرائيليين تخلوا عن عرباتهم المصفحة في حالة فوضي ورعب لا مثيل لها. ونعود إلي المنطقة الواقعة حول قسم الأربعين. لقد تمكن ابراهيم سليمان من تغيير موقعه وإصابة عربة مصفحة إسرائيلية، وكان الرجال قد بدأوا يهاجمون أفراد الطابور المعادي الذين ارتفعت صرخاتهم المرعوبة، وراح رجال القوات المسلحة يشتبكون مع العدو ويهاجمونه، ويذكر محمد عواد شاباً من رجال قواتنا المسلحة كان ضابطاً برتبة نقيب كان قصيراً أبيض البشرة: يا سلام، لم أر في حياتي من هو أشجع منه، كان يهاجم بإصرار وبقلب ميت لا يعرف الخوف، اسمه.. اسمه.. والله لا أذكر اسمه، لم يقل اسمه، لم تكن هناك فرصة للتعارف، كان كل من في المدينة يسرع إلي مكان القتال، يعاون جنود القوات المسلحة، يقدم ما يمكنه من المساعدة، اشترك في القتال أناس لم يحملوا السلاح طوال حياتهم ولم يشتركوا في خناقة، أذكر علي سبيل المثال عبدالعزيز محمود موزع الصحف الذي كان ينقل الجرائد والمجلات من القاهرة إلي السويس، قطع عليه الطريق، سأل، هما اليهود جايين منين ؟ أشار له الرجال إلي الاتجاه، حمل سلاحاً، وذهب وقاتل واستشهد، كان الأطفال الصغار ينقلون الذخيرة خلال القتال، والعجائز يشتركون في إطفاء الحرائق...! كان الإسرائيليون قد هربوا من مصفحاتهم، وقام أفراد الكمين بتغيير مواقعهم. عبر أحمد العطيفي الطريق إلي داخل سينما رويال، كان باب السينما الحديدي مغلقاً، أطلق دفعة رشاش علي القفل، فتحه، وأسرع إلي الداخل ليحتل موقعاً يمكنه من إصابة الجنود الإسرائيليين فوجئ بعد لحظات أن جندياً إسرائيلياً قد اقتحم السينما، أصبح في مواجهته، أطلق الكوماندوز الإسرائيلي دفعة رشاش مرقت بجوار أحمد، وبسرعة لحظية أطلق أحمد دفعة رشاش أصابت الإسرائيلي في يده القابضة علي رشاش المدفع «العوزي»، اخترقت إحدي الطلقات خزانة المدفع، ونفذت الرصاصات الباقية إلي جسد الإسرائيلي، «رأيت مدفع العوزي الرشاش الذي كان يحمله فرد الكوماندوز الإسرائيلي ضمن الغنائم وآثار الطلقات التي أصابت خزانته تصنع فجوة عميقة تخترق جسم المدفع كما رأيت سترة هذا الفرد الذي كان واضحاً أنه ينتمي إلي جنود المظلات الإسرائيليين». في نفس الوقت، بدأ أفراد العدو في الجري للدخول إلي أقرب مبني لهم، وتصادف أنه مبني قسم الأربعين، لم يتمكن جميع أفراد العدو من الدخول إلي القسم، إذ أن جنود القوات المسلحة ورجال المقاومة والأهالي هاجموا العربات المصفحة وفتكوا بها. أصبح كل فرد في المدينة مندفعاً نحو مركز المعركة الدائرة حول قسم الأربعين، الأهالي: البائعون منهم وأصحاب الدكاكين، اللبان والجزار وبائع الصحف والقهوجي، والذين اجتجزوا في المدينة بسبب قطع الطريق، إلي جانب رجال القوات المسلحة حوالي الساعة الواحدة والنصف ساد هدوء مفاجئ استمر دقائق، بدأت الرصاصات المتفرقة، دانات المدفعية، وردت المدينة بجحيم من النيران، كانت الطلقات تخرج من كل مكان في اتجاه واحد، اتجاه العدو، كان الطابور المدرع الإسرائيلي قد أصبح مادة للنيران التي التهمته، أما أفراده فتم الفتك بهم فتكاً تاماً، وتناثرت أشلاؤهم علي قضبان السكك الحديدية، وفي عرض الطريق، وأمام أبواب البيوت التي حاولوا اللجوء إليها، وتناثرت الخوذات ورشاشات العوزي وصناديق الطلقات، وبين ألسنة اللهب ترتفع صيحات الجرحي من اليهود، صيحات كالعويل، وفوق الضجة ترتفع صيحة «الله أكبر» من المقاتلين، من الرجال، فتبدو وكأنها صرخة المدينة المدافعة عن نفسها في مواجهة العدوان، وداخل قسم الأربعين استطاع عدد من جنود العدو التحصن فيه.
في قسم الأربعين مبني قسم الأربعين مربع الشكل، مدخله الخارجي يؤدي إلي فناء داخلي يطل عليه طابقان، إن من يتحصن بالطابق الأعلي يمكنه التحكم في مدخل المبني، وفي المنطقة المحيطة بالقسم حيث يوجد سور مرتفع يبعد عن جسم المبني حوالي ثلاثة أمتار، لقد صمم المبني وروعي عند إنشائه أن يشبه الحصن، بحيث يمكن الدفاع عنه بسهولة، كما أن المبني يقع عند مفترق الطرق، وعلي ناصية خطي السكة الحديدية، الخط المؤدي إلي قلب مدينة السويس، والخط المؤدي إلي الزيتيات. لقد تم الفتك بالقوة الإسرائيلية المهاجمة.. وقام رجال القوات المسلحة بالتصدي للموجات الأخري من الهجوم الإسرائيلي عند مدخل المدينة، وتم تدميرها موجة وراء الأخري، كما تصدوا لعدد من الدبابات والمدرعات التي حاولت التقدم بسبب ما جري لموجة الهجوم الأولي التي أبيدت، ولكن كان الذعر يسيطر علي حركة هذه القوات، لدرجة أن إحدي الدبابات الإسرائيلية تراجعت عند مدخل المدينة بمجرد إطلاق دفعة رشاش عليها وقامت مدرعة أخري بالدوران حول نفسها مرتين، ويعلق أحد المقاتلين علي هذا المنظر: «كان جسم العربة يعكس رعب من بداخلها، وعندما دارت السيارة حول نفسها مرتين وبسرعة شديدة وفي نطاق ضيق من الأرض لم أتصور أبداً أن في إمكانية هذه العربة الدوران بكل هذه المرونة». وحول القسم تجمع رجال القوات المسلحة، وبعض الأهالي، واستعدوا لاقتحام القسم، وطوال هذه الفترة لم تهدأ المناوشات وإطلاق الرصاص من الجانبين، بدأ حصار مبني القسم، اتفق الرجال علي الانتظار حتي آخر ضوء حيث قرروا اقتحام القسم من ناحيتين، قبيل الغروب بفترة وجيزة بدأ إطلاق النار من جانبنا بكثافة، وتقدم الرجال لاقتحام القسم، كان علي رأسهم ابراهيم سليمان. كان هناك أيضاً هذا النقيب الشجاع، كان طوال فترة القتال كالنحلة لا يهدأ، يتحرك هنا وهناك يا سلام.. لم أعرف اسمه، أصيب عند سور القسم، كان يمسك قنبلة يدوية بيده، صار يزعق وجرحه ينزف.. يا وحش.. ياوحش.. تحرك إليه ابراهيم سليمان، اقترب منه، أخذ منه القنبلة، كان النقيب يريد أن يسلمه القنبلة بعد أن أصيب إصابة جسيمة، من علي بعد معين رأينا المشهد في غبشة الغروب، كان أحمد العطيفي وسرحان والبهنسي «مهندس زراعي» وجنود القوات المسلحة يقومون بتغطية اقتحام القسم، اندفع ابراهيم سليمان، قفز من فوق السور، ارتفعت يداه في الهواء، ونفذت رصاصات رشاش أطلقت عليه من النافذة العلوية، كان الوقت غروباً، بقي الشهيد ابراهيم سليمان مكانه، منحنياً فوق السور حتي صباح اليوم التالي، غير أن استشهاد ابراهيم لم يكن نهاية الهجوم، ومحاولة اقتحام القسم، اندفع الرجال ومن بينهم أشرف، استمر أشرف يجري في اتجاه القسم، تمكن فعلاً من اجتياز المدخل، لكنه عندما مر إلي الفناء تلقي دفعة رشاش، وسقط شهيداً داخل القسم وفي الحال اندفع الشهيد فايز، وفوق درجات السلم الداخلي بالقسم استشهد. نزل الليل وكان الظلام كثيفاً والعتمة شديدة، وأصوات القتال الليلي الغامض تتردد في المدينة، طلقات الرشاشات ودانات المدفعية، وأحياناً يسود الصمت لدقائق فيسمع صوت الجنازير وهي تتحرك علي مسافات متباعدة، اضطر المقاتل محمود إلي إشعال النيران في إحدي الدبابات المعادية ليضيء المنطقة المحيطة بالقسم، وظلت هذه الدبابة مشتعلة حتي الصباح، وكانت المدينة الملتهبة يسودها شعور قوي بالانتصار والثقة. كان جحيماً لا يمكن اقتحامه، وكان كل من فيها علي استعداد للموت والفتك بمن يفكر في الدخول إليها، كان مستحيلاً علي أي قوة أن تدخل السويس. وأمام قسم الأربعين رقد عدد من الشهداء.. بينهم هذا الضابط الشجاع برتبة نقيب، الذي لم يهدأ طوال المعركة. والذي كان يقاتل قتالاً وحشياً، لم يكن مهما التعرف، المهم أنهم مصريون وهو مصري، ويرقد أيضاً ابراهيم سليمان وأشرف وفايز شهداء منظمة سيناء العربية، وأهالي السويس، في الصباح عندما اقتحم الرجال القسم، وبعد السيطرة علي القسم، وجدوا آثار دماء وأربطة جراحية ومقص ومشرط. كان صباح يوم 25 أكتوبر قد بدأ، وبدا معه أنه من المستحيل الآن اقتحام المدينة.
25 أكتوبر بينما قصف المدفعية مستمر، يتصل القائد الإسرائيلي بالمسئولين عن المدينة عن طريق تليفون موجود بالزيتية، يهدد بتدمير المدينة بالطيران، يهدد بقطع المياه، بدأوا يوجهون إذاعات إلي المدينة بمكبرات الصوت، في نفس الوقت قام عدد من أهالي المدينة رجال دين ومثقفين بالمرور في الشوارع مستخدمين مكبرات الصوت، يلهبون مشاعر الأهالي، وكان الناس يقولون في الطرقات، إنهم يهددون بضرب المدينة بالطيران.. إن السويس تقصف بالطيران منذ ست سنوات، ماذا يجري لو أصبحت المدة ست سنوات وأياماً. كان واضحاً أيضاً من شكل تهديدات الإسرائيليين أنهم لن يحاولوا اقتحام المدينة عنوة، ورداً علي هذه التهديدات كان قرار المدينة كلها، رفض الاستسلام تحت أي ظروف، والقتال حتي الموت. ويستمر قصف المدفعية والطيران.
مساء 25 أكتوبر خلال النهار تقدمت إمكانيات الدفاع عن المدينة، كل ساعة تمر تعني تحسين موقفها الدفاعي، لقد تم تدعيمها بأطقم اقتناص الدبابات من جنود الفرقة 19 الموجودة شرق القناة، في نفس الوقت كان يتم تنظيم موارد المدينة المتاحة وتوظيفها بأفضل الطرق، في المساء دفع العدو بعض دباباته ومدرعاته في محاولة لاستقصاء موقف القوة التي اقتحمت المدينة، أبيدت هذه المحاولة بعد انتهاء الحصار، وانسحاب القوات الإسرائيلية، دخل إلي المدينة شاب كثيف اللحية، يبلغ من العمر أربعين عاماً يعمل مصوراً، لكنه بعد العدوان تطوع للعمل الفدائي، قناوي لم يشترك في معركة السويس لأنه كان في مهمة لاستطلاع قوات العدو، قضي 90 يوماً فوق جبل عتاقة، وبمجرد انسحاب العدو تقدم إلي مدينته السويس، لم يسأل عن أمه وأخوته، كان أول سؤال وجهه إلي من التقي بهم: فين زمايلي؟ ورآه أحمد العطيفي وسمعه فسأل واستفسر من أحد الواقفين بجواره: مين ده؟ وترقرقت الدموع في عيني قناوي لأن زميله لم يتعرف عليه بسبب ما لحق به من تغير.. وعندما تعانقا ولمح قناوي زملاءه، لم يجد بينهم ابراهيم سليمان وفايز وأشرف امتلأت عيناه بالدموع. قال أحمد العطيفي: نقصنا أربعة يا قناوي. وكانت السويس من حولهم تحتفل بالنصر، والطلقات تلعلع في الهواء، وكان اللقاء حاراً مؤثراً يدفع بالدمع إلي العيون.. إنها الحرب. الأسبوع القادم : رؤية إسرائيلية