مازالت صفارات الإنذار اليومية تتردد في أذني، ومشهد الخنادق التي تم حفرها في كل شارع يتراءي أمامي، وذكري المجزرة البشعة لأطفال مدرسة بحر البقر توجعني ستظل حرب أكتوبر المجيدة تاريخا محفورا في الذاكرة، ولهذه الأيام لمن عاشها في أي مرحلة من عمره ذكريات لاتنسي، لها في قلبي مكان خاص، أحداث من الصعب نسيانها، ورغم صغر سني وقتها إلا أنني أشعر من فرط ما أتذكر كل أحداثها أنها حدثت بالأمس، كنت في بداية المرحلة الثانوية، وقبلها وعلي مدي ست سنوات، منذ نكسة يونيو 1967 وكنت وقتها في منتصف المرحلة الإبتدائية، كنت أقطن مع عائلتي بمدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية، وهي التي تتجاور في الحدود مع محافظة الإسماعيلية التي تم تهجير أهلها وبقية مدن القنال بعد النكسة، كان منزلنا يقع علي الطريق المؤدي إلي الإسماعيلية التي كنا تذهب إليها كثيراً، فهناك كانت مزرعة جدتي علي البحيرات المرة، ولي بالإسماعيلية أقارب أعتز بهم. كنت أشاهد علي مدار اليوم من شرفة منزلي بالزقازيق مشهدين لايمكن نسيانهما، الأول سيل من سيارات ومدرعات الجيش في طريقها للإسماعيلية، والمشهد الثاني كان أشد قسوة، سيل من سيارات النقل التي تحمل المهجرين وأثاث منازلهم تفرغ محتوياتهم في الشوارع لتعود وتأتي بغيرهم، وخروج أهالي الشرقية لاحتوائهم بمنازلهم واقتسام الطعام والنقود معهم، ست سنوات عجاف كانت الأسر تكتفي بالقليل من المواد الغذائية، أتذكر أننا حرمنا طوال هذه المدة من صينية الكيك اليومية التي كانت تصنعها أمي كل مساء لتصبح مرة كل شهر، كان هذا ساريا علي معظم الأسر المصرية لتوفير المواد الغذائية للجنود علي خط النار، عشنا في ظلام دامس بعد أن طُليت كل النوافذ باللون الأزرق وإغلاق مفاتيح الكهرباء كل مساء، مازالت صفارات الإنذار اليومية تتردد في أذني، ومشهد الخنادق التي تم حفرها في كل شارع يتراءي أمامي، وذكري المجزرة البشعة لأطفال مدرسة بحر البقر بالشرقية التي ضربها الطيران الاسرائيلي في 8 ابريل 1970، وقت حرب الاستنزاف توجعني، وكلمات صلاح جاهين ولحن سيد مكاوي وصوت شادية يرن في أذني « الدرس انتهي لموا الكراريس». سنوات كبيسة عاشها كل مصري، لم نفقد فيها الأمل من النصر، عشنا علي الهمس والتخوف من الكلام أمام الغرباء خوفاً من الجواسيس الذين كنا نسمع عنهم، كانت الوطنية والأمل في النصر يملأ القلوب والعقول رغم ماكان يقال عن خط بارليف الحصين، ورغم وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، أتذكر ذلك الرجل العجوز بوجهه الملئ بالتجاعيد الذي تحامل علي نفسه وصعد في منتصف الليل اربعة أدوار في ظلام دامس ليطرق بابنا لأنه شاهد بصيصا من ضوء شمعة من أحد شبابيك منزلنا المطلية باللون الأزرق الغامق نسينا إغلاقه. وفي ظهر السادس من أكتوبر 1973، فور سماع نبأ العبور امتلأت الشوارع وشرفات المنازل بالزغاريد، فرحة وابتهاجا ومشاعر لايمكن وصفها في كلمات، كنا ننتظر وصول أولاد أعمامي من الجنود والضباط في إجازاتهم بفارغ الصبر ليرووا لنا مايحدث علي الجبهة، نلتف حولهم ونستمع لقصص البطولة، تلك الحرب التي أدهشت العالم بقدرات المصريين واصابت إسرائيل وأمريكا بالصدمة، وبدأنا رغم تأخير الدراسة بالمدارس في تجميع أنفسنا رغم صغر عمرنا، التبرع بالدماء، الإلتحاق بالهلال الأحمر، زيارة المستشفيات، وشهدت الأيام الأولي للدراسة في ذلك العام ظهور المبدعين والمبدعات من صغار السن في الشعر والخطابة، فمن الألم يولد الإبداع، وتناوبنا الروايات عن قصص البطولات الخارقة التي شهدتها رمال سيناء، والشعور بالكرامة بعد النصر واسترداد الأرض، ولم يخل بيت أو أسرة مصرية من شهيد أو اثنين بعد أن تنافس الشباب والرجال علي التطوع في الجيش رغبة في المشاركة، حكايات وروايات عن أعظم انتصار للعسكرية المصرية وأعظم ملحمة وطنية في العصر الحديث، لابد أن تقرأها الأجيال الحالية والقادمة.