مأمون غريب الإنسان لغز محير، ومحاولة فك طلاسمه بعيد المنال.. ومع ذلك وجدنا محاولات لمعرفته من خلال المتصوفة والشعراء والادباء وعلماء النفس.. وحول الاقتراب من طبائع النفس البشرية كانت تلك السطور! من الصعب معرفة اللغز الانساني.. ما هو.. وماذا يريد وماذا يطمح اليه؟ ولماذا يختلف انسان عن الآخر؟ ولماذا طبع البعض علي الخير، بينما طبع البعض الاخر علي الشر.. واغلب الناس هم مزيج من الخير والشر. والانسان هو الانسان منذ فجر التاريخ حتي اليوم.. وقد عشت متأملا هذا الانسان وسلوكياته عبر التاريخ من خلال كتب علم النفس حينا، والفلسفة حينا آخر ومن خلال الفكر الديني، وخرجت من ذلك بأن الانسان لغز يصعب حل شفرته وهو يتقلب بين الخير والشر، وبين الهدي والضلال، وبين النور والظلام. وقد اعجبني كتاب »الرعاية لحقوق الله للحارث المحاسبي« من خلال الدراسة الرائعة التي كتبها عنه الامام الاكبر الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الازهر الاسبق.. انه يتحدث فيه عن هذا العالم الفقيه الحارث بن اسد المحاسبي وكنيته ابو عبدالله، فنعرف الكثير عن حياته وعلمه وتصوفه ومؤلفاته.. كما استوقفني في تلك الدراسة حديثه او تصنيفه لطبائع البشر، واختلاف الناس، وكأنه عالم نفس اخذ علي عاتقه حل لغز الانسان، واختلاف طبع انسان عن آخر.. فهو يقول انه رأي الناس اصنافا: فمنهم العالم بأمر الآخرة، لقاؤه عسير ووجوده عزيز. ومنهم الجاهل: فالبعد عنه غنيمة. ومنهم المتشبه بالعلماء مشغوف بدنياه مؤثر لها. ومنهم حامل علم منسوب الي الدين، ملتمس بعلمه التعظيم والعلو، ينال بالدين من عرض الدنيا. ومنهم متشبه بالنساك، متجر بالخير، لا غناء عنده، ولا بقاء لعلمه، ولا معتمد علي رأيه. ومنهم حامل علم، لا يعلم تأويل ما حمل. ومنهم منسوب الي العقل والدهاء، مفقود الورع والتقي. ومنهم متوادون.. علي الهدي يتفقون، وللدنيا يتباذلون، ورياستها يطلبون. ومنهم شياطين الانس عن الآخرة يصدون، وعلي الدنيا يتكالبون، والي جمعها يهرعون، وفي الاستكثار منها يرغبون، فهم في الدنيا احياء، وعن العرف موتي، بل العرف عندهم منكر، والسوء معروف. ويقول المحاسبي: فتفقدت في الاصناف نفسي، وضقت بذلك ذرعا، فقصدت الي صدي المهتدين، يطلب السداد والهدي، واسترشدت العلم، واعملت الفكر واطلت النظر، فتبين لي في كتاب الله تعالي، وسنة نبيه، واجماع الامة: ان اتباع الهوي يحمي عن الرشد، ويضل عن الحق، ويطيل المكث في الحمي! ثم يمضي المحاسبي يتحدث عن الطريق الذي سلكه حتي يسير في طريق النور، ووجد المحاسبي نفسه كما يقول الدكتور عبدالحليم محمود في معسكر اهل السنة علي وجه العموم وفي تيار الصوفية منهم علي وجه الخصوص. ويورد الدكتور عبدالحليم ما قاله الاستاذ لويس مسينيون عن كتاب الرعاية في كتابه مصطلحات التصوف: ان المحاسبي سما بالتحليل النفسي الي مرتبة لا تجد لها مثيلا في الاداب العالمية الا نادرا. واجمل ما في الكتاب ايضا تحليل المحاسبي للرذائل الانسانية وشرحها، تلك الرذائل التي تحبط الاعمال وتنفي الاخلاص كالرياء، والكبر، والعجب، والحسد. فهو يورد الايات القرآنية، والاحاديث النبوية، وكلام الصحابة والتابعين- رضي الله عنهم، وهو يحذر من الوقوع في هذه الرذائل.. فهو يتحدث عن ارياء مثلاء، فيقول ان من اشد ما يروي في ذلك حديث رسول الله- صلي الله عليه وسلم- عن ابي هريرة- فيما روي مسلم- سمعت رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول: ان اول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمة نعرفها، قال: فما عملت فيها: قال: قاتلت فيك حتي استشهدت قال: كذبت ولكن قاتلت، لان يقال جريء، فقد قيل ثم امر به فسحب علي وجهه حتي القي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمة فعرفها.. قال: فما عملت فيها، قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن، ليقال: قاريء، فقد قيل، ثم امر به فحسب علي وجهه حتي القي في النار ورجل وسع الله عليه واعطاه من اصناف المال، فآتي به فعرفه نعمة فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: واتركت من سبيل تحب ان ينفق فيها الا انفقت فيها لك.. قال كذبت ولكنك فعلت ليقال جواد، فقد قيل ثم امر به فسحب علي وجهه حتي القي في النار. وفي رواية ان النبي صلي الله عليه وسلم، خط علي فخذ ابي هريرة، وقال: يا ابا هريرة اولئك أول خلق الله، عز وجل، تسعر بهم نار جهنم يوم القيامة، فذلك أعظم الرياء عند الله، عز وجل. واذا كان هذا ارادة غير الله بالطاعة، فإن من أنواع المرائين من يريد الله ويريد الناس ايضا، وذلك اقل من السابق ولكنه ايضا رياء. يقول الله تعالي: »فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا«. ويقول صلي الله عليه وسلم، في حديث قدسي عن الله عز وجل: »انا اغني الشركاء عن الشريك من عمل لي عملا: واشرك معي شريكا ودعت نصيبي لشريكي«. ثم يأخذ المحاسبي في وصف الوان من الرياء عديدة تأتي علي شكل خطرات تتردد في النفس ليكون الانسان منها علي حذر، ويبين المراءة في الفروض، والمراءة في السنن، ثم يتحدث عن بعض ما ينشأ عن الرياء من الاخلاق المرذولة المذمومة. وبهذا التحليل الجميل يمضي المحاسبي وهو يحدثنا عن رذائل الناس المذمومة، وتشعر بعد قراءة ما كتبه الحارث المحاسبي، وتحليل الدكتور عبدالحليم محمود، بأن المحاسبي قد وضع لنفسه هدفا في الحياة يسعي الي تحقيقه هو »حسن الخلق«.. لقد وضعه هدفا يعمل علي تحقيقه في نفسه، ووضعه هدفا يعمل علي تحقيقه في مجتمعه. المتنبي وادعاء النبوة لاشك ان المتنبي هو امير الشعراء في كل العصور، وكان هو نفسه يشعر بذلك، ويعتد بذاته الي اقصي مدي، حتي انه اشترط ان يقول الشعر امام سيف الدولة الحمداني وهو جالس وليس واقفا كما يفعل الشعراء في حضرة الحاكم.. وهو كما يقول عنه الاديب المفكر علي ادهم: »ابو الطيب المتنبي اقوي شعراء العربية نبضات قلب، وابعدهم منزع فكر، واعمقهم حكمة، ومن اصدقهم افصاحا عن خفايا النفس، واعرفهم باسرارها، فلا عجب ان كان يعد ذلك ابعدهم شهرة واخلدهم اثرا، ولست اعرف شاعرا من شعراء العرب ظفر من اعجاب الخاصة والعامة بمثل ما ظفر به المتنبي، وبرغم الزمن الطويل الذي مر علي وفاته وتغير الاحوال وتبدل المعايير الادبية، وتباين اساليب الفهم واختلاف الذوق فإن شهرته لم تخمد، ولايزال اسمه سائرا علي الالسنة وشعره مضرب الامثال ومستودعا من مستودعات الحكمة«. ويقول عن تدينه انه لم يكن يصلي ولا يصوم ولا يقرأ القرآن، ومن هنا يبرز تساؤل: هل ادعي النبوة؟ لقد قال البعض عنه ذلك لانه قال: ما مقامي بأرض نخلة الا كمقام المسيح بين اليهود انا في امة تداركها الله غريب كصالح في ثمود ونعود الي التساؤل هل ادعي النبوة؟ ان الزمن يعود بي الي الوراء، يوم التقيت بالشيخ محمد متولي الشعراوي في احد فنادق الاسكندرية في ذات يوم شديد الحرارة، واجريت معه حوارا تناول العديد من القضايا ونشر في مجلة »آخر ساعة«.. اتذكر انني سألته باعتباره شاعرا، وباعتباره مفكرا وداعية اسلاميا كبيرا.. هل صحيح ان المتنبي ادعي النبوة؟ يومها ابتسم شيخ الدعاة وقال لي: المتنبي سيد شعراء العربية في مجموعه، وان فاقه بعض الشعراء في بعض الجوانب، ولكن في مجموعة خير من مجموع اي شاعر آخر. وصمت الشيخ الشعراوي قليلا كأنه قد تداعي الي خاطره بعض الذكريات وقال: - كان لنا استاذ- رحمه الله »يوسف نجاتي« كان استاذا لنا في كلية اللغة العربية.. وكان موسوعة.. وكان يجول بنا في شتي فروع اللغة وكان يقول لنا: العربية ليس فيها الا الاحمدين: احمد شوقي، واحمد ابوالطيب المتنبي. - هل ادعي النبوة حقا؟ - هبه ادعاها فما معجزته؟ فمن يدعي النبوة تقول له: ادع ما شئت.. ان كل نبي يأتي بما يعجز عنه البشر، ويتحدي بها من يعارضه، حتي لا يقول له هذا المعارض انه كان بامكاني ذلك. ذهب ان هذه اشاعة، فما الذي الصق هذه الاشاعة بالمتنبي حتي اصبح لا يعرف الا بها. اذن لابد ان لها اصل، وان كان الاصل في فترة غرور انتابته ثم عاد فعدل عنها. وافة العباقرة ان كل خواطرهم تسجل عليهم، ولو جئنا بأروع الورعين، وقلنا له سجل خواطرك التي مرت بك فربما »يطلع« ملحد! وقد ترددت عنه حكاية، وهذه الحكاية قد تثبت الاصل، عندما رأي عبدا اسمه زيتون، فسأله المتنبي - ما اسمك؟ - اسمي زيتون - اسموك زيتونا وما انصفوا.. لو انصفوا سموك زعرورا.. ان في الزيتون نورا يضيء، وانت لا زيتا ولا نورا. وكان زيتون هذا ذكيا فسأل المتنبي بدوره: - وانت ما اسمك؟ - المتنبي. - يا لعنة الله هبيّ علي قفا المتنبي ان كان هذا نبيا فالقرد لاشك ربي!! فهذه الحكاية حتي لو كانت موضوعة، فهي تعني ان ادعاء النبوة له صدي. والسؤال هنا: هل توقف عند هذا الحد ام رجع عن ذلك؟ ويقول الشيخ الشعراوي: ان المعري قد اعتراه الشك، هبه سجلت عليه خواطره، وهب ان انسانا عندما اخذ يسجل خواطره، جاءت الخواطر عن الله.. عند اي انسان.. وسجلت عليه ولكن لا احد يسجل علي احد. وقلت يومها للشيخ الشعراوي: ما دمنا نتحدث عن جماليات الادب: هل يمكن ان نقيم الاعمال الادبية بالمقاييس النقدية المتعارف عليها ام من خلال القيم الدينية والاخلاقية؟ فأجاب شيخ الدعاة: - هناك فرق بين الجمال لذاته، والجمال لغاياته، من ناحية التصوير الجمالي لا انظر اليها من خلال القيم الدينية، بدليل ان الشاعر او الاديب عندما يحسن شيئا- وقد يكون كفرا- ولكن كصفة ادبية تقيم من خلال المقاييس النقدية لا الدينية. فمثلا الشاعر المهجري الذي قال: مولاي اني قد عصيتك عامدا لاراك اجمل ما تكون غفورا.. ولقد دنيت من الذنوب كبارها ضنا بعفوك ان يكون صغيرا اذن هناك ما يسمي الجمال في ذاته، ولكن الجمال بما يؤدي اليه فهذا موضوع آخر، ولذلك فالشعر كفن انطلاقي اخيلة، والتعبير عن تلك الاخيلة عندما يدخل في الخير يضعف بعض الشيء، ويقوي في الشر! وكان الامام الشعراوي يري ان النقد يجب الا يوصلني الي القبح. طرفة كان الشاعر ابونواس شاعرا ماجنا، رغم انه يعد من كبار شعراء العرب، قال عنه الجاحظ: - ما رأيت احدا كان اعلم باللغة العربية من ابي نواس، ولا اوضح لهجة. وكان اجمل شعره هو التغني بالخمر، والمتع الحسية، وكأن يأمل في مغفرة الله لانه لا يشرك به. روي عنه رجل اسمه ابو نصر قال: رأيت أبا نواس يوما وهو يكنس مسجدا.. فهالني الامر، وعجبت لذلك الشاعر الماجن المعروف بالمنكرات: كيف اراه علي هذه الصورة؟ فقلت له: ماهذا يا ابا نواس؟ فاجابني: اردت ان يرفع الي السماء في هذا اليوم خبر ظريف! حكمة: لا خير في فكرة لم يتجرد لها صاحبها، ولم يجعلها رداءه وكفنه، بها يعيش وفيها يموت. «توفيق الحكيم»