تحية لمن صاغ البيان الذي جاء متصديا لمنصات الرعب وتهديدات القتلة، كلمات ذكية، مختارة بعناية.. لولا بيان القائد العام للقوات المسلحة، للجيش المصري، و الذي وصلنا مساء ذلك الأحد لثقل الكابوس، ولتكاثفت العتمة التي نزلت علي روح مصر منذ بدء انشطة ذلك الحشد المأجور، المصطنع يوم الجمعة الماضي والذي استهدف ترويع الوطن كله، الازهر وإمامه الاكبر، الجيش عماد الوطن والدولة، المصريين جميعا الذين وصف معظمهم بالضلال والكفر، مشهد يلخص السياسة المتبعة، هدم الدولة عمدا، مطلوب الا يكون هناك أزهر حتي لا تكون هناك مرجعية اسلامية موثوق بها، محاولة هدم الازهر لم يجرؤ عليها أعتي الغزاة الاجانب، فلحساب من يوجه ذلك الشخص الذي لم نسمع بكتاب له أو اجتهاد لخدمة الدين، لحساب من يوجه إهاناته إلي الامام الاكبر، جاءت رسالة الجيش في الوقت المناسب تماما، ولقد توقفت امام صياغتها الدقيقة، خاصة السطور التي قيلت بحسم وأعتبرها جوهر الرسالة. »ليس من المروءة ان نصمت امام تخويف وترويع أهالينا المصريين، والموت أشرف لنا من أن يمس أحد من شعب مصر في وجود جيشه....« الجيش يتقدم في اللحظة الحاسمة ليحمي أهله، ان كلمة الاهل هنا دالة جدا، هذا هو الدور الرئيسي لاقدم جيوش العالم، الجيش الذي وضع أسس العسكرية وابتكر الرموز وأولها العلم، للأسف جرت أمور أدت إلي انقطاع الصلة بين الجيش وشعبه، في كل دول العالم يتم تدريس التاريخ الحربي علي مستويات مختلفة للاطفال، للفتيان،، يصحبهم اساتذتهم جماعات إلي اماكن المعارك ليضعوا الزهور، اذكر انني كنت في فرنسا منذ سنوات، خرجت مع صديقي وأخي علي الشوباشي - رحمه الله - إلي شوارع باريس، لاحظت طوابير الاطفال الذين يحملون الزهور، سألت صاحبي عن المناسبة التي يجري الاحتفال بها، قال إنه يوم مخصص للشهداء، في بعض الاماكن الشهيرة رأيت لافتات من حجر عليها الاسماء التي تنتهي بكلمة واحدة »شكرا«، انهم رجال المقاومة في زمن الحرب العالمية الاولي، هذا ما رأيته في جميع مدن العالم، عدا مصر صاحبة أقدم الجيوش، ثمة جهل غير مقصود المسئول عنه من قصر في وصل التاريخ ببعضه، وثمة جهل سييء النية، مسموم، مثل جهل هذا الشخص الذي تدور حوله علامات استفهام عديدة لدوره الغامض في ميدان التحرير اثناء الثورة، وقف فوق منصة اطلاق الرعب ليصب الشتائم المباشرة ضد الجيش، ويذكر بيونيه سبعة وستين، هذا الشخص الذي رضع الجهل منذ طفولته يعاير شعبه كله بحدث كان نتيجة تآمر كبير علي مصر ،نفس هذا الجيش الذي يسبه خاض معركة رأس العش في الثلاثين من يونيه ليوقف رجال الصاعقة طابورا مدرعا اسرائيليا، ولتبدأ واحدة من أعظم حروب مصر، حرب الاستنزاف والتي قدر لي ان أشهد معظم مراحلها، جاء بيان الجيش بعد ظهر الاحد ليهديء من آثار تهديدات الجمعة وصيحات الحض علي قتل الشعب، وبدأ سيل الدماء في المحلة الكبري وفوة ثم ذلك الحدث البشع الذي يعتبر تطبيقا عمليا لصيحات التحريض والكراهية ضد الشيعة، الامور تتسارع ، وعندي يقين ان الشعب المصري سوف يجتاز المحنة مادام جيشه سليما، متوحدا، قادرا علي القوي المجرمة التي تهدد مصر والمصريين. سندباد مصري الاثنين : نحن في حاجة إلي التأمل العميق في روح المصريين الحاملة لسر مصر الدفين الذي لا يمكن فهمه إلا بالتأمل الطويل والمعايشة والقراءة المستمرة لما كان في الماضي البعيد أو القريب، منذ فترة قدمت أحد الكتب التي اعتبرها دليلا إلي فهم الشخصية المصرية، أعني سندباد مصري للدكتور حسين فوزي والذي تأثرت به منذ ان قرأته فصولا في الاهرام بداية الستينيات، يبدأ المؤلف من لحظة فاصلة تقترب كثيرا من اللحظة التي نمر بها الآن متجهين إلي الثلاثين من يونيه المنتظر، أعني دخول سليم الاول الغازي العثماني إلي مصر في القرن السادس عشر، وبدء مقاومة المصريين له وللاحتلال العثماني البشع الذي استغرق ثلاثة قرون حتي تم الخلاص منه. في الجزء الثاني يرحل السندباد إلي ماض أبعد، في عام 640 دخلت مصر في حوزة الاسلام ولم تخرج منه، لم يكن الفتح العربي مجرد ديانة جديدة ولغة، لكن ما حدث ان مصر أصبحت ركنا اساسيا في العالم الاسلامي، وهذا التحول فصلها عن تاريخها السابق، غير أن د. حسين فوزي يرجع هذا الانفصال إلي تاريخ أقدم عندما تحولت مصر عن ديانتها القديمة إلي اعتناق المسيحية، ويقول إنه من الخطأ تحميل المسلمين تبعة تخريب المعابد الفرعونية، لان المسئول الاول عن هذا التخريب هم المصريون المسيحيون، فما إن اصدر الامبراطور تيودوسيدس عام 395 ميلادية أمره بوقف العبادات الوثنية حتي راح المسيحيون المصريون يهدمون أو يخربون هذه المعابد، أو يحولونها إلي كنائس، ويتحمل المصريون تبعة نسيان لغتهم القديمة، واستغلاق أمرها، ينبه الدكتور حسين فوزي إلي خطورة اعتبار المسلم تاريخ بلاده قاصرا علي المرحلة الاسلامية، والمسيحي يبدأ بكرازة مرقس الرسول. وينبه إلي ضرورة فهم مراحل التاريخ المصري بحلقاته المختلفة حتي يمكن فهم جذور ومكونات الشخصية القومية. منذ فجر التاريخ لم تتغير نظرة حكام مصر إلي شعبها، يقول الامبراطور الروماني طيباديوس لعامله في مصر »لقد اوفدتك لتجز الشاه لا لتسلخها« ويقول البك الالفي لجليسه »الانسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسمنها وجبنها، يلزمه ان يرفق بها في العلف«. فيجيبه المملوك »هذا ما أعتدناه وربينا عليه«. ويقول الخليفة عثمان بن عفان لعمرو بن العاص بعد عزله »لقد درت اللقحة بعدك يا عمرو« فيجيبه قائلا »لكنها أضرت بوليدها« يقول د. حسين فوزي ان معجزة هذا الشعب ليس في بناء الحضارة، انما ان يظل مبدعا بلا انقطاع رغم الظلم، يتتبع بالتفصيل اعتناق مصر للمسيحية، وظهور الرهبنة لأول مرة في العالم هنا في مصر، وأعترف أنني لأول مرة أفهم حقيقة الصراع بين أقباط مصر وبين كنيسة روما من كتاب سندباد مصري. مثل هذه التفاصيل لا تضمها مؤلفات التاريخ التي درسناها في مراحل دراستنا المختلفة، يتوقف عند حياة ثلاث ملكات حكمن مصر بالتفصيل، حتشبسوت، شجرة الدر، كليوباترا، غير أن السطور النفاذة فأجدها في وصفه لبعض ملامح المصريين الذين يغيبون عن مصادر التاريخ التي لا تحفل الا بالملوك والملكات. شعب فيلسوف يقول الدكتور حسين فوزي متأملا أعماق الشخصية المصرية، لأتصور الشعب المصري علي طول تاريخه الاسلامي - والفضل لمن ذكرت من أصحاب الحوليات العظماء، وللمقريزي بنوع خاص - عندما أقف بحي الازهر، أو تحت الربع، أو أجلس بباب حلاق بالحسينية أو بالحنفي، أشاهد بياع البسبوسة يرجو جاره أن يحرس صينيته حتي يذهب ليتوضأ ويصلي في سيدي البيومي، أو في جامع الأشرف برسباي، ويعود الرجل بعد هنيهة متهلل الوجه، نظيفه، وزبيبة الصلاة، وقد زادت سمارا. أتصور الشعب المصري في تلك العصور، وفي المدن: بائع الحلوي والخراط والسروجي والبزاز والعطار وصانع الخيام. وعندما أستمع إلي حديث أوساط الناس في أحيائنا الوطنية، أستعيد أيام طفولتي بينهم، فأفهم المعاني المستترة وراء لغتهم السمحة المهذبة، من أمثال: »يفتح الله« ومعناها: السعر الذي تعرضه غير مقبول. و »صل عالنبي«، أي فلنبدأ في الفصال. و »علي الطلاق«، أي لا تصدق كلمة مما سأقول! و »يا فتاح يا عليم«، أي أول القصيدة كفر، وبعدها وياك، وربنا يكفينا شرك. و »باسم الله«، أي تفضل وشاركني لقمتي التي لا تكاد تكفيني، ثم يتشجع عندما ترفض دعوته، فيقول »حلفت عليك«، ومعناها : أيها الاريب لقد فهمتني! و »اتوكل علي الله«، يعني اغرب عن وجهي من غير مطرود، و »دستور إيه يا عم الله يخليك«، يعني شبعنا من هذا الكلام وأمثاله. هذه لغة شعب فيلسوف مسالم يتكلم »بالكناية«، وينادي علي سلعته بصورة شعرية: »يا للي طاب، طلب الأكال، يا بيض اليمام، يا ناعم!« . وبعض هذه النداءات قديم، وقد اكتشفت المناداة المعروفة علي الكتاكيت: »ملاح الملاح«، في القرن التاسع الهجري »عام 887ه - 1482م«. فابن إياس يذكر وفاة بدر الدين الدميري، المعروف بكتكوت، أحد نواب الشافعية: وكان فاضلا عارفا بصنعة التوقيع، وكان موقع الدست، وكان فكه المحاضرة، كثير العشرة، طلق اللسان في حق الناس، فكانت الشعراء تهجوه كثيرا: قد عيل صبري من خطب ألم به فإن غدا الديك سلطانا فلاعجب عقلي وطرفي مذهول ومبهوت فقد غدا قاضيا في الناس كتكوت فيرد الأديب علي بن برد بك، مدافعا عن القاضي كتكوت: إن الدميري صديقي فلا ولا أري كالغير تقبيحه أسمع فيه قول واش ولاح بل هو عندي من ملاح الملاح شعب علمه ظالموه الحذر وصون اللسان، كما فرضوا عليه ممارسة السخرية المستترة. فما عرفت، والله، شعبا في مثل قدرته علي التندر بالحكام، وفي حذقه التلاعب بالألفاظ! ولكن الكيل قد يطفح أحيانا، فإذا بالشعب المصري يرفع صوته بالهجاء الصريح: باشا يا باشا من قال لك يا وش القملة تعمل دي العملة أو »إيش حا يجيلك من تفليسي، يا برديسي!« أو »يارب يا متجلي، أهلك العثمانلي!« في نهاية هذا العرض لا نجد أبلغ من تلك السطور التي يختتم بها الدكتور حسين فوزي كتابه. يقول: أردت لهذا الكتاب أن يكون ملحمة للشعب المصري، فإذا هو في أكثر من موضع مرثية طويلة لما عاناه علي مدي الازمان، وإذا بي، وأنا أؤكد قوة هذا الشعب علي المقاومة والصراع والبقاء، وأشير إلي ما أداه من خدمات للحضارة، أتوكأ علي آلامه وهزائمه. أتري في هذا معني من المعاني المتأصلة في النفس المصرية، وهل كنت معبرا عن تلك الروح الحزينة، روح المصري يضحك بملء فيه وحنجرته، ثم يقول فجأة »اللهم اجعله خير«؟ لا أدري، وإنما أعرف أنني أعيش مثل مواطني، نظرنا يحدق في الماضي المجيد، يستوحيه أملا في المستقبل، وموقن بأن ما أبقي علي المصري خمسة أو ستة آلاف سنة من تاريخه المهول، هو إيمانه بشمسه ونيله وأرضه السمراء، وقوة الخير التي تدبر أموره من عل، فهو مؤمن بأن المدبر الاعلي لا ينسي كنانته، وأن من أرادها بسوء قصمه الله، وأن بعد العسر يسرا. وهو يحب ان يردد »رب تمم بالخير«. وإن أعمق الكلمات التي سمعتها تتردد علي لسان الناس في أحياء القاهرة القديمة هي كلمة »الفرج«، المصري، مهما نزلت به النوازل، يأمل في الفرج بعد الشدة. ولست متأكدا إن كنت هنا قد نفذت إلي سر قوة هذا الشعب العجيب، أتكون حقا في إيمانه بكلمة »تفرج«؟ أهي في أنه لم ييأس يوما واحدا في ستة آلاف عام، من رحمة مفرج الكروب؟« أقول بعد استيعابي لكتاب الدكتور حسين فوزي الذي أحببته كثيرا »كلمة الفرج يرددها المصريون كثيرا. أنهم يصبرون جدا صبرا طويلا جميلا، حتي يظن من أمسك أمورهم أو من يتربصون بهم أنهم دانوا وأذعنوا، واذا بهم ينتفضون فجأة فيدهشون القاصي والداني، هذا ما بعثه فينا شباب حركة تمرد، وهذا ما نمضي إليه يوم الثلاثين وقد صار قريبا. وداعا صديقي منذ المدرسة الاعدادية في الخمسينيات، تقاربنا. ونشأت أواصر قوية، استمرت عبر الزمن حتي مع التباعد واختلاف المواقع، حسن بكر، حسين عباس لقيه، الدكتور اسماعيل يوسف، حسن جاب الأرض شرقها وغربها ثم استقر في القاهرة وحسين حقق حلمه، التحق بالكلية الحربية وتدرج في المواقع حتي رتبة اللواء، عسكري بطبعه، خاض حروب مصر خلال خدمته الطويلة وحتي احالته إلي التقاعد. تفرقت بنا الدروب عدا الدكتور اسماعيل الذي افتتح عيادة في قلب كفر الزغاري، الحي الشعبي القاهري الاصيل ومدخله يواجه كليات الازهر الشرعية، تطورت به الاحوال الا انه لم يغادر الكفر، مارس الطب كرسالة، عاش بين الفقراء وأدي خيرا كثيرا، كان هادئا، متمهلا، قليل النطق طويل التأمل، كنا نتهاتف بين الحين والحين، وكما اعتاد حسن بكر عرف أقدم الصحب يذكرني عبر الهاتف بضرورة الاتصال بهذا أو مجاملة ذلك، جاءني صوته ليخبرني برحيل الدكتور اسماعيل، كنت بمفردي بين الكتب ومصادر الموسيقي، اطرقت، واستعصي دمعي علي الخروج، إنما أودع فيه جل عمري. من ديوان النثر العربي قال أبو حيان التوحيدي في الاشارات الالهية: يا هذا: دع سكران الهوي حتي يتهادي في سكره، ودع مقلد الحال حتي يتمادي في نكره، ودع مدبر الخلق حتي يوصف بذكره، ودع المحتاج حتي يموت علي حاجته، والمريض حتي يتناهي في دنفه، والدنف حتي يفضي إلي تلفه، فليس إلي البغية سبيل، ولا علي درك الرضا دليل. للعقل صلف شديد، فإذا قدته إلي التقليد جمح، وللحس ترف ظاهر إذا أشرت له إلي التسمح ثاب وعاد، وثبت واعتاد، والانسان بينهما أسير، إن أراد طاعتهما حاداه وشاقاه، وإن مال إلي أحدهما اجتمعا عليه ودقاه. فكيف يطيب عيش من يفيض صدره بهذه الحفائظ، ويغلي سره بهذه المغايظ؟ ما يطيب والله لحظة عين. الحديث أطول من هذا، ولكن في فمي ماء. علي أني قد سقت العبارة هكذا وهكذا، شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا، وأرضا وسماء، فلم أدع للكناية قوة إلا عصرتها عند العثور عليها، ولا للتصريح علامة إلا ونصبتها حين وصلت إليها. واشفاقي علي من لا يفهم لكدر طباعه، أو لبلادة فهمه، أو لغالب جهله »46/ب« أو لعصبية تعتريه شديدة، لأنه يفسد وقد قصدت صلاحه، ويغوي وقد أردت فلاحه. إنا لله وإنا إليه راجعون، أصبحت: كأني ذبالة نصبت تضيء للناس وهي تحترق.