من موقع عدم الخلط بين وضع دستور ينظم العيش المشترك للأمة المصرية في الدولة المصرية, وبين روابط اللغة والدين والجوار والتاريخ والمصلحة وغيرها مما يربط شعب مصر بشعوب دول عربية وإسلامية شتي. دعوت الي إصدار دستور الجمهورية الثانية باسم الأمة المصرية, باعتبارها عنوان الهوية والولاء والإنتماء لكل المصريين. وقد تبدو هذه الدعوة- نتيجة سوء فهم أو سوء قصد- وكأنني أنفي الهوية العربية والإسلامية لمصر, أو أرفض حقيقة أن مصر دولة عربية بلسان شعبها, وحقيقة أنها دولة إسلامية بديانة غالبيته. ولا يخفي أن نقاد إعلاء الهوية الوطنية المصرية هم دعاة الهوية والقومية والوحدة العربية, الذين يعيشون حلم صعود حركة القومية العربية, ودعاة الهوية والخلافة والوحدة الإسلامية, الذين يستدعون ماضي دولة الخلافة الاسلامية. وقد أضيف هنا دعاة التغريب والعولمة والتفكيك من فاتري الروح الوطنية, الذين ضعف إحساسهم بالولاء والانتماء الوطني جراء انبهارهم بالغرب أو إندماجهم في العولمة أو إقصائهم في وطنهم. والواقع ان الأمة المصرية حقيقة قائمة وواقع معاش, بينما مسألة الهوية العربية لمصر- في ارتباطها بدعوة الوحدة العربية- هي مشروع مستقبلي محتمل لإقامة أمة عربية موحدة ودولة عربية ترتكز الي روابط وصلات اللغة والجوار والمصلحة وغيرها, وتستوعب أقليات غير عربية بقدر ما تكون دولة جميع مواطنيها. وأما مسألة الهوية الإسلامية لمصر- في ارتباطها بدعوة الوحدة الاسلامية- فهي مشروع سلفي مثالي; يستهدف إقامة دولة خلافة دينية عالمية تتمايز وتتناقض فيها القوميات واللغات والمصالح. ويقيني أن إعلاء راية الأمة المصرية لا يتعارض مع مباديء ومقاصد وقيم الإسلام, كما لا يتناقض مع دوافع وأهداف وحقائق العروبة. لكن أصحاب الرؤي العقائدية المطلقة- خاصة من السلفيين- لا يقبلون بغير الانصياع لرؤيتهم, ويتناسون أن الدستور أمر يتعلق بتنظيم العيش المشترك للمصريين في دولتهم المصرية, بينما الدعوتان العروبية والدينية لا صلة لهما بالحديث عن دستور للدولة المصرية. فالدستور بتعريفه هو المبادئ الأساسية التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيها, وتنظم السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية للدولة من حيث التأسيس والتكوين والاختصاص والحدود والعلاقات بينها, وتعين الحقوق والواجبات والحريات الأساسية للمواطنين والجماعات في الدولة وضمانات حصولهم عليها وممارستهم لها وحمايتها, وهو القانون الأساسي الأعلي أو أبو القوانين في' الدولة'. وقد سجلت في مقالي السابق بشأن هوية مصر أننا قد نسينا أن المصريين القدماء منذ آلاف السنين قد اعتبروا أنفسهم أمة قائمة بذاتها; كانت عنوان الهوية والولاء والانتماء, وان بناء الوطن وإقامة الدولة وتكوين الأمة في مصر كان مأثرة مصرية رائدة وملحمة إنسانية فريدة, حين حول الجدود المؤسسون مصر المكان هبة النيل الي مصر المكانة هبة المصريين, وأقاموا أول أمة موحدة تضم ملايين البشر تحت حكومة مركزية قوية, وعينوا حدود وطنهم وجعلوا حمايتها هي مهمتهم المقدسة, ووصفوا مصرهم بأنها المحروسة, وهو ما ردده جيرانها الذين سموها مصر; أي' البلد المكنون', بمعاني الحدود والأسوار وصفات الحصانة والحماية. وحين أشرت الي المعاني الأخيرة لاسم مصر لم تدر في خلدي أي دعوة الي عزلة; لم ولا ولن تعرفها مصر عن محيطها الإقليمي والمتوسطي والنيلي وعالمها العربي وعالمها الإسلامي; وهو ما تصوره القاريء الدكتور علي فرج في تعليقه علي مقالي السابق. وليس في دعوتي لإعلاء راية الأمة المصرية أي نعرة استعلائية أو شوفينية, حين أشرت لأن المصريين القدماء قد أطلقوا علي أنفسهم اسم رمث بمعني الناس, وكادوا يقصرون هذه التسمية علي أنفسهم, وكأن غيرهم من الشعوب أقل إنسانية منهم!! وهو ما اعتقدته أمم عاصرتهم وأعقبتهم. لكن المصريين قد آمنوا بالمساواة بين البشر أجمعين مع إيمانهم بالتوحيد وتكوينهم إمبراطوريتهم. وقد علق صديق بصفحتي علي الفيس بوك علي ذات المقال يقول إننا نستحق أن نكون( أسياد العالم), فأسرعت معقبا بل نستحق أن نكون( سادة في العالم). والأمر أن جوهر الشخصية الوطنية المصرية يكشف عن أن المصري في نظرته للآخر لا يكاد يعاني من مركب نقص ولا يعرف مركب استعلاء, وإنما يتعامل بندية تلقائية علي قدم المساواة مع الآخر. ولم تعرف الأمة المصرية كراهية الأجانب, ولا عرفت التعصب العرقي أو الحاجز اللوني, ولا رفضت الاختلاط الصحي بالغير, وجسدت خير تجسيد مقولة إن المواطنين هم كل أولئك الذين يظلهم الوطن واندمجوا فيه وأقاموا به بصفة دائمة, كما سجل جمال حمدان في شخصية مصر. وحين تصبح مسألة هوية أعرق أمم الأرض مسألة خلافية, يشعر بالدهشة والأسي من يعرف تكوينها وتاريخها. والأمر- كما سجل حسين فوزي وبأسي في سندباد مصري- أن هوة فكرية عميقة صارت تفصل بين حاضرنا وماضينا البعيد, موضحا أن فهم تاريخ مصر ليس مجرد الإدراك العقلي له وإنما الإحساس بذلك التاريخ إحساسا يحرك المشاعر ويوقظ القومية, ويصل ما انقطع من الروح المصرية! وبذلك رصد السندباد المصري واحدا من أهم أسباب ضعف مشاعر الولاء والانتماء الوطني, وهو عدم إدراك قيمة تاريخ مصر وقدر الأمة المصرية الجديرين بفخر الانتساب لهما, بإبداعهما للحضارة واكتشافهما للضمير, وحضورهما الرائد والفريد طوال تاريخ الإنسانية المكتوب, القديم والوسيط والحديث! وفي تفسيره لانقطاع صلة المصريين بتاريخهم- وإن احتفظوا بجانب من تراثهم- يشير حسين فوزي الي أن التحول الي المسيحية هو الذي قضي علي مصر القديمة, عقيدة وقلما وتاريخا وآثارا, فنبذ المصريون المسيحيون تاريخهم الفرعوني, ولم يفعل المصريون المسلمون أكثر من الإجهاز علي مصر القديمة ومعالمها ولغتها. وقد حاول أجدادنا الأقباط الإبقاء علي لغة المصريين القديمة حرصا علي الطقوس وحفاظا للكتاب المقدس في ترجمته القبطية القديمة, وليس كلغة للحياة اليومية. ولم يكن أمر الفتح العربي مجرد ديانة اعتنقها المصريون أو حتي مجرد لغة حلت محل اللغة الرسمية التي سادت آنذاك وهي اليونانية, وإنما كان تصفية لما تبقي من اللغة القومية المصرية القديمة وفصلا تاما للمصريين عن تاريخهم العتيق. وقد سجل عالم المصريات الألماني الكبير أدولف إرمان- مع غيره من علماء المصريات وأساتذة علم الإنسان بجانب سليمان حزين وجمال حمدان وغيرهما من الباحثين المصريين المدققين- حقيقة أن شعب مصر القديمة يعيش حتي الآن في شعب مصر المعاصرة. ولكن عشية العصر الحديث كان المصري المسيحي يبدأ تاريخه الحضاري أو تاريخ مصر بكرازة مرقس الرسول, وكان المصري المسلم ينظر الي الإسلام كأساس لحضارته, ويعتبر العصور السابقة علي الإسلام كأنها تاريخ شعب آخر انتهي أمره! وما إن استيقظ المصريون مع صدمة الحملة الفرنسية حتي اكتشفوا أن لتاريخهم العريق أكبر حساب عند أصحاب الحضارة الأوروبية الحديثة!! فلم يعد مقبولا أن يظلوا علي جهلهم بحضارة أجدادهم وبخاصة عقب ثورة سنة1919, وكان نص دستور1923 علي الأمة المصرية وإن في غير ديباجته ومطلعه, وهو ما تواري لاحقا علي أي حال مع صعود الحركة القومية العربية في دساتير العهد الناصري, ثم صار مهددا مع هيمنة قوي الاسلام السياسي علي لجنة وضع الدستور المرتقب. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم