ما من مسلم إلا ويقترف من المعاصي ما يستوجب التوبة منها, عظمت هذه المعصية أو صغرت, إلا المعصومين منها, وليس ثمة خلاف بين العلماء علي مشروعية التوبة ووجوبها من كل ذنب فور اقترافه, وقد رغب الشارع في التوبة من المعاصي فقال الله سبحانه: وتوبوا إلي الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون وقال تعالي: إن الله يحب التوابين وقال جل شأنه يا أيها الذين آمنوا توبوا إلي الله توبة نصوحا, وكل ذنب يجب علي فاعله أن يتوب منه وإن صغر, فإذا تاب قبل الله سبحانه توبته ومحا عنه هذا الذنب, وعلي هذا إجماع العلماء, قال تعالي:( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا علي ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين), وقال سبحانه:( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما), وقال عز من قائل:( إنما التوبة علي الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما), وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له, وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا اقترف ثم تاب تاب الله عليه, والتوبة من المعاصي نوعان: توبة فيما بين العبد وبين ربه, وهذه يسقط بها الإثم, وتوبة ظاهرية, وهذه يتعلق بها قبول شهادة التائب وعودة ولاياته العامة والخاصة, وصفة التوبة من النوع الأول: أن يندم التائب علي المعصية التي اقترفها, ويترك فعلها في الحال, مع عزمه علي عدم العود إليها. وقيل: إن التوبة النصوح هي التي اجتمع لها أربعة أشياء: الندم بالقلب, والاستغفار باللسان, وإضمار عدم العود إلي المعصية, ومجانبة خلطاء السوء, ومن العلماء من استبدل بهذا الشرط الأخير: أن تكون توبة العاصي حياء من الله تعالي لا من غيره, وهذه التوبة وإن وجبت علي العاصي فور اقترافه المعصية إلا أنها إذا لم توجد منه إلا عند موته قبلت ما لم تبلغ الروح الحلقوم, لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر, فإذا لم يتعلق بالمعصية حق مالي لله تعالي أو لأحد من خلقه, فلا شيء علي التائب سوي التوبة, لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: الندم توبة, وإذا تعلق بالمعصية حق مالي لله تعالي أو لآدمي, كمنع الزكاة أو الجناية علي أموال الناس, وجب مع التوبة أن يبريء التائب ذمته من هذه الحقوق بأداء الزكاة ورد أموال الناس إليهم, أو ضمانها لهم إن أهلكها أو هلكت, وإن عجز عن ذلك نوي رد هذه الحقوق إلي أصحابها متي قدر عليه أو طلب من مستحقيها إبراءه منها, وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي, فإن كان حدا لله تعالي لم يظهر عليه ولم يقر به بعد, فله أن يقر به ليقام عليه الحد, والأفضل أن يستر علي نفسه لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: من أتي شيئا من هذه القاذروات فليستتر بستر الله تعالي, فإنه من أبدي لنا صفحته أقمنا عليه الحد, وإن كان هذا الحق لأحد من العباد كالقصاص فإنه يجب علي الجاني التائب أن يأتي إلي مستحق ذلك ويمكنه من الاستيفاء, وأما إذا اغتاب أحدا وعلم المغتاب بذلك, فيشترط لصحة التوبة أن يأتيه ويستحل منه, فإن تعذر علي التائب إتيانه كفي الاستغفار من هذه الغيبة, وإن لم تبلغ المغتاب الغيبة كفي الندم والاستغفار, وأما التوبة في الظاهر فصفتها تختلف بحسب نوع المعصية, أن كانت فعلية أو قولية, فإن كانت فعلية: كالزنا والسرقة والشرب ونحوها, فإظهار التوبة منها لا يكفي لقبول شهادة التائب وعود الولايات له عند جمهور الفقهاء, إلا إذا مضت علي توبته مدة يغلب علي الظن فيها صلاح حاله وصدق توبته, لقول الله تعالي في حق القاذف:( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم), وقال في حق من أشرك بالله أو قتل بغير حق أو اقترف الفاحشة:( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلي الله متابا), وإن كانت المعصية