من الذي لا يحب فاطمة كلمة ترددت كثيرا في سجن القناطر.. سمعتها وأنا في طريقي إليها.. رغم أنها في نظر القانون مجرمة إلا أن الجميع هنا يحبونها النزيلات والقائمين علي السجن من المأمور وحتي أصغر حارسة به.. ستة عشر عاما قضتها فاطمة- كما تحب من النزيلات أن ينادينها كانت أما بديلة لكل فتاة غدر بها الزمن وأتي بها إلي هذا المكان.. وفق آليات الحياة داخل السجن تعلمت مهنة الخياطة والتريكوه. فاطمة لم تكن نزيلة عادية داخل سجن القناطر تستطيع التدخل بشكل سريع لحل أي مشكلات تنشب بين النزيلات.. تحتضنهم بحنان الأم وهم كانوا يجدون معها العوض عن الحرمان من الأهل والولد وحكاية فاطمة نفسها مليئة بالأسي والشقاء. داخل الزنزانة وقفت فاطمة شاردة لا تصدق أن أقدارها قادتها إلي هذا المكان في قضية أموال عامة بعد أن كانت خارج الأسوار مليء السمع والبصر.. الجدران الصماء تدور من حولها.. تاهت الرؤية في عينيها وعاد بها خيالها إلي تلك الأيام البعيدة وهي بعد قد خطت خطواتها الأولي علي أعتاب الشباب تزهو بجمالها وترفل في سعادة غامرة.. لا تسعها الدنيا فقد تقدم لها رجل بمنطق ثقافة الأسرة وتقاليدها عريس لقطة.. لم يمض بها الوقت كثيرا حتي غادرت بيت والدها إلي عش الزوجية ورغم عشقها لدراسة التجارة وحبها لعالم رجال الأعمال إلا أنها قررت أن تعيش من أجل زوجها وأولادها و لم تكمل دراستها الجامعية.. وجدت فاطمة نفسها في بيت تعمه السعادة وفي كنف زوج وفر لها حياة كريمة ولأنه كان يسافر كثيرا خارج البلاد في رحلات عمل ترك لها مسئولية البيت وتربية الأولاد.. كان زوجها يحبها بجنون ويرسل إليها كل مدخراته.. ومضت سنوات العمر سريعا ومضي معها الشباب ومسحة الجمال النضر وخلفت لها خصلة من الشعر اشتعلت باللون الأبيض وباتت تري نفسها في أولادها الذين كبروا وتجاوزوا طور الطفولة وخطوا علي أعتاب الشباب.. احساسها بذاتها وشخصيتها الطاغية تاها في ذات أولادها وزوجها.. توارت خلفهم ووجدت في نجاحهم نجاحا لها ونسيت أنها لم تكمل دراستها الجامعية بكلية التجارة كما نسيت طموحاتها أيام الشباب وكيف كانت تري نفسها وقد اقتحمت عالم المال و الأعمال وحققت فيه نجاحات كثيرة وزاعت شهرتها.. نسيت كل شيء إلا بيتها ومسئوليتها تجاه أولادها.. لكنه ليس دائما تأتي الرياح بما تشتهي السفن فقد وجدت فاطمة نفسها غارقة في شرنقة الوحدة فزوجها مازال علي حاله من السفر والعمل بالخارج والأولاد الذين كانوا يشغلون حياتها تزوجوا وانشغل كل منهم ببيته وحياته. ولكي تتخلص فاطمة من براثن الوحدة التي كادت أن تفتك بها قررت أن تستعيد ذاتها الضائعة وتستعيد معها شبابها المنقضي.. قررت أن تحقق حلمها باقتحام عالم المال ورجال الأعمال.. طرحت علي زوجها الفكرة واستأذنته في استثمار مدخراتهما ووافق الرجل لأنه يحبها. واستطاعت فاطمة في وقت قياسي أن تنشيء شركة تجارية وتحصل علي توكيل خط انتاج تليفزيونات تقوم بطرحه بالأسواق وشيئا فشيئا وضعت قدمها بقوة علي طريق رجال الأعمال وعرفت الملايين الطريق إليها. لم تدرك أن نجاحها سوف يقودها إلي مصير مجهول فقد كانت هناك عيون كالصقر تترقبها.. تتحين الفرصة لتنقض عليها وتلتهمها و لم تع فاطمة قانون السبعينيات وما فعلته سياسات الانفتاح الاقتصادي وقتها فلم تجار الأمور السائدة بين التجار وصدقت أوهام حيتان السوق من أصحاب شركات توظيف الأموال في مطلع الثمانينات كما أنها لم تفهم أن للتجارة أشكالا أخري عليها أن تتعلمها من الشيطان نفسه و لأنها لم تستوعب كل هذه التحولات واجهت أكبر صدمة في حياتها فقد تقاذفتها الأمواج المتلاطمة العاتية وفجأة دارت بها الدنيا لتجد نفسها قد تورطت في شيكات بنكية بأكثر من خمسة وعشرين مليون جنيه وتكاثرت عليها الشركات بالمطالبات الفورية. داخل سجن القناطر التقيت بها في حضور العميد محمد عليوة مدير العلاقات العامة بمصلحة السجون الذي أشار إلي أن فاطمة تبذل مجهودا كبيرا في تعليم النزيلات الحرف اليدوية. في بداية اللقاء الذي كان داخل مكتب العميد أسامة عبدالتواب مدير منطقة سجون القناطر وفي حضور العقيد ياسر الكردي مأمور السجن والرائد تامر سند رئيس مباحث سجن النساء قالت فاطمة إنها قضت من عقوبة السجن ست عشرة عاما وبقيت لها أربع سنوات تعود بعدها للدنيا ولكن بشخصية جديدة اكتسبتها خلال سنوات السجن, وقالت إنها ضحية الأساليب الملتوية في عالم البزنس والتي لا تجيدها ولا تعرف عنها شيئا. وأضافت: زوجي رجل عظيم قدر الموقف الذي وضعت فيه ولم يتخل عني بل ساندني وشد علي يدي ونصحني بالتحلي بالصبر حتي تمر السنوات الطويلة سريعا. وواصلت: عندما دخلت السجن شعرت في أول يوم لي أني دفنت في قبر وأنا علي قيد الحياة ولكن وفاء أولادي لي واهتمامهم بي خفف عني كثيرا فهم لا يغيبون عني أبدا.. يأتون إلي كل زيارة وأملأ عيناي بهم وأصبر نفسي حتي أخرج وألقاهم و أداري دموعي التي لا تفارقني يوما علي فراقهم ولكنها الأقدار ومشيئتها وأنا مؤمنة بقدر الله و أتعلق بأهداب الصبر وعلي يقين بأن فرج الله قريب.