أهم مظاهر الإصلاح السياسي في مصر هو ذلك الاتساع الكبير في نطاق الحريات العامة وحرية التعبير. أهم ما في هذه الإصلاحات هو ما أدت إليه من توسيع نطاق الحوار العام وجذب أعداد متزايدة من المصريين للاهتمام بالسياسة والشأن العام. العقود الطويلة التي جرت خلالها مصادرة السياسة في مصر خلقت فراغا سياسيا وفكريا تم ملؤه بالاستهتار والتفاهة من ناحية, وبالتطرف الديني والسياسي من ناحية أخري. استعادة السياسة للمجتمع المصري هي الطريق الوحيد لمحاصرة التفاهة والتطرف, وهو ما شرعنا فيه خلال السنوات الأخيرة. من مفارقات الوضع الراهن في مصر أن مساحات الحرية المتاحة تزيد كثيرا عما تسمح به القوانين والتشريعات المعمول بها في البلاد. فقوانين الصحافة والإعلام المطبقة لدينا لا تسمح بهذا السقف المرتفع من حرية التعبير, مثلها مثل القوانين المنظمة لحقوق التظاهر والإضراب والاعتصام. لقد ذهبت الممارسة الفعلية للحقوق والحريات العامة بعيدا جدا فيما وراء المدي الذي تسمح به القوانين السارية, وهو وضع فيه من الشذوذ الكثير. أغرب ما في الوضع الراهن هو أنه يحرم مؤسسات ونخبة الحكم التي سمحت بهذا التوسع الكبير في نطاق الحريات العامة من الفوز باعتراف الناس بدورها في هذا المجال. الأكثر من هذا هو أن التناقض بين الإطار القانوني الضيق والممارسة الفعلية المتسعة يجعل الأمر يبدو كما لو كان كل هذا التوسع في نطاق الحريات العامة وحرية التعبير حدث رغما عن أنف وإرادة المؤسسات والنخبة, مع أن أي مراقب لمصر وأوضاعها يدرك أن هذا غير صحيح. في الأمر قدر كبير من عدم العقلانية لا يمكن معالجته إلا بتعديل الأطر القانونية القائمة بحيث تتناسب مع الممارسة الفعلية. فقانون الصحافة الذي يجيز حبس الصحفيين بات معطلا بعد الإسقاط المتتالي لأحكام بالحبس صدرت ضد بعض الصحفيين. والقوانين التي تمنع تجمع أكثر من خمسة أشخاص لم يعد لها معني بعد أن خففت الدولة القيود المفروضة علي التجمعات السلمية, حتي بات الرصيف المقابل لمجلس الشعب لا يخلو في أي يوم من متظاهرين من نوع ما. أتمني أن يأتي قريبا اليوم الذي أقرأ فيه علي الصفحات الأولي لصحف الصباح خبر تعديلات تشريعية تسبغ الشرعية علي ما باتت مصر تتمتع به من حريات, فعندها ستتغير جوانب عدة من المشهد السياسي المصري كثيرا نحو الأفضل.