إن ما تشهده الساحة المصرية اليوم في طول البلاد وعرضها من اعتصامات ومظاهرات واحتجاجات وإعلان للعصيان المدني, وصلت إلي حد التعرض للأبرياء من قطع للطرق, وسلب للأموال, واعتداء علي الأعراض, وحرق الممتلكات وتحطيم المقرات الحزبية, وأماكن الاجتماعات السياسية, وبذلك تتطور الأحداث وتتنامي الاعتراضات, وتزداد حدة التوترات, وتنتشر أعمال العنف والبلطجة ويستخدم السلاح بكل أنواعه في إثبات الوجود, وحل المشكلات, وتعود الناس علي الاستماع إلي أحداث القتل الذي يقوم به شباب متهور, ليس لهم دين ولا ضمير ضد أفراد آمنين, وشباب طيبين, لم يرتكبوا جريمة, ولم يقترفوا جريرة, ولم يقدموا علي ذنب أو معصية, سواء كانت كبيرة أو صغيرة, وخرجت السيوف مرة ثانية من أغمادها, وتراشق بها الصبيان في الشوارع والطرقات... في ظل هذه التقلبات تطفو عادة علي سطح الأحداث نماذج من البشر لا تفهم قولا, ولا تتزين بحكمة ولا تعرف رشدا, لأن الاحتكام يكون عادة لصاحب القوة, ومن يمتلك البطش والتنكيل... وبذلك ننتقل إلي جو الحروب والمعارك, وإلي أصوات الاستغاثات من المكلومين والمنكوبين ولا يجرؤ أحد علي محاولة كسر الحصار أو إطفاء جذوة النار, لأنه سيجد من يتصدي له ويمنعه من القيام بأي واجب مطلوب, أو إثبات موقف مشهود. * ولا يمكن لعاقل أو غيور علي هذا البلد أن يقبل علي نفسه أن يقنع بدور المشاهد, وأن ينظر إلي ما يجري حوله دون محاولة البحث عن تلك الأيدي التي تعبث في أمن المواطن, وتعيث في الأرض الفساد, ويشارك في إيجاد الحلول العملية, لإعادة الأمور إلي طبيعتها السلمية ونشر الأمن والأمان في ربوع الأوطان. إن هناك فجوة كبيرة في سلسلة هذه الأحداث, لم يولها أحد أدني اهتمام, وهو دور الأخوة العاملين في المجال السياسي الذي تلاشي تماما عن الأفراد, وابتعد كلية عن الأحداث وتركت الساحة لمن ينفخ في الرماد, مع أن المفروض علي كل القوي السياسية بجميع أطيافها وألوانها أن تنزل إلي الشارع وأن تختلط بالأفراد, وأن تستمع إلي نبض المواطن, والتعرف علي مطالبه وشكواه, وتحاول جاهدة فتح أبواب الحوار المغلقة والنوافذ الموصدة, ومحاولة الوصول إلي الحلول المرضية لجميع الأطراف في ظل المصلحة العليا للوطن بعيدا عن الاحتكام إلي لغة العنف والقوة والبطش والحرق والتدمير, ويعود الجميع إلي لغة الحوار الوطني الهادف والباحث عن الأهداف المشتركة والمصالح المرسلة, وينأي الجميع بأنفسهم بعيدا عن البحث عن المصالح الخاصة والأهداف الذاتية والمكاسب الفردية. إن هناك من ينفخ في الرماد لتزداد النار اشتعالا, وتمتلئ البلاد خرابا ودمارا, يستخدمون في ذلك الشائعات المغرضة, والأقوال المختلفة, والافتراءات الكاذبة لتوسيع شقة الخلاف, وبث الفرقة, وإيجاد أسباب للنزاع وبواعث للشقاق, ونشرها عبر وسائل الإعلام المختلفة لنقل تلك الأخبار المضللة بسرعة شديدة, ووصولها إلي الأفراد والجماعات الشبابية التي تتقد حماسة وتمتلئ اندفاعا, فتتحرك بقوة, وتنطلق بعزيمة, وتؤثر فيهم فعل السحر, ويصلون إلي مرحلة لايستمعون فيها إلي ناصح أو ينصتون فيها إلي حكيم, أو يقبلون من يصحح لهم هذه المعلومات, أو يوضح لهم هذه البيانات, وهم بذلك معذورون, ومع كل الذي يصنعونه ملامون, فلم يجدوا أحدا من البداية يجلس معهم, أو يدرك أحاسيسهم أو يتحمل مسئوليتهم, كما أنهم لم يجدوا واحدا من هؤلاء السياسيين الكبار الذين كثيرا ما وثقوا فيهم وانصاعوا إلي أوامرهم, واستجابوا لطلباتهم ورغباتهم من يبصرهم بحقائق واقعهم الذي يعيشون فيه, ومدي المخاطر التي تحيق بهم من كل مكان, فكل هذه المسائل تحتاج إلي إيضاح وتفسير, وليس هناك أحد مؤهل للقيام بهذه المهمة غير العقلاء والحكماء القريبين من نبض الشارع وحركة الناس. * إن الانتخابات البرلمانية علي الأبواب, وبمجرد فتح الباب للترشح سوف نجد سيلا منهمرا من المترشحين الذين يملأون الدنيا صخبا وضجيجا, وكل واحد منهم يزعم أنه خير من يمثلهم, وأفضل من يقوم بهذا العمل, وسوف نري الأموال التي لم تنفق في محلها تتساقط من كل حدب وصوب, بل أننا نري إنفاقا علي مجالات الدعاية والإعلان بكثير من السفاهة, بل بكثير من الجنون والبلاهة ولا يقصد من ورائها غير تضليل البسطاء من القوم, والضحك علي السذج من الناس, ويحصل أناس لا يجيدون في دنيا الناس شيئا غير التربيطات والتجهيزات والحشد, أما أن يكون لهم دور فاعل في الأحداث الجسام والأوقات العصيبة, والمواقف الخطيرة, فهذا فوق طاقتهم, وأعلي من إمكاناتهم, فكل هذه الأحداث تقع تحت سمعهم وبصرهم, وتحترق الدنيا وتشتعل البلاد وهم جالسون لا يتحركون من قصورهم الفارهة, ولا من فوق مقاعدهم الوثيرة, ولا يستيقظون من نومهم العميق, لأن الأمر ببساطة لا يعنيهم من قريب أو بعيد, فأنظارهم لا تري إلا مصلحتهم الذاتية ومنافعهم الشخصية. ضوابط الحوار: إن الثقافة العامة بين أبناء الشعب لا تجيد لغة الحوار, ولم تتعود علي إدارة النقاش ولا تعرف له ضوابط, ولم تقف له علي آداب وأحكام, لأن الحوار الذي ساد دهرا طويلا من الزمان, وكان هو الأسلوب السائد لجميع أنظمة الحكم السابقة, وتعود عليه الأفراد والجماعات والهيئات هو حوار الطرشان الذي عادة ما يكون بصوت مرتفع, ومن طرف واحد, ولا يسمح للآخرين بالحديث أو إبداء آرائهم بحرية وانطلاق, وليس لديه استعداد للنقاش أو مجرد سماع الآخرين, لأن كلامه أوامر, وقراراته نافذة, ومعلوم أن كثرة الضغط تولد الانفجار, وقد وصل الناس إلي مرحلة الغليان وأعقبه الانفجار, وبعد أن كانت الحكومة هي التي تتكلم وحدها والشعب المصري بكامله صامت لا ينطق ببنت شفة, تحولت الأمور وأصبح الآن الشعب المصري بكامله يتكلم, ولا يجد أحدا يستمع إليه, لأن الجميع يتكلمون في نفس الوقت والناس أيضا معذورون في ذلك فلم يتعودوا من قبل علي مثل هذه الأساليب الراقية والطرق الرفيعة التي تسمو بالإنسان وتحلق به في سماء السمو والتحضر, وأعداء الأمة المتربصون بها شرا لا يحبون لها العزة والرفعة, ولا يتمنون لأهلها الاستقامة والانضباط, وإنما يحرصون دوما علي بث الفرقة والشقاق, ونزع فتيل الصراع والنزاع. رابط دائم :