بدا مخرجنا في ذلك الزمان عازفا عن الحياة الفنية, لقد قال كلمته, ولم يعد هناك ما يقدمه للسينما التي أفني حياته بين استديوهاتها ومعاملها, لكنه ثمن كل تقدير لاقاه خلال مسيرته الطويلة سواء من النقاد أوالجمهور وكذلك الدولة ممثلة في وزارة الثقافة التي منحته العديد من الجوائز, وعلي المستوي الدولي والإقليمي اعتبر كمال الشيخ الذي غاب عن دنيانا قبل ست سنوات, تكريمه في تلك المحافل كان بمثابة تكريم للسينما المصرية والعربية, إذن تواري الشيخ بعيدا عن مكانه الساكن خلف الكاميرا حيث كان يدير إبداعاته البصرية, وفي كلمات قصيرة عن ذكرياته ورؤيته للافلام التي أخرجها أكد الشيخ رضاه عن كل اعماله إجمالا فهو بطبعه لا يميل قط إلي الاستخفاف أو الخروج عن طريق رسمه لنفسه منذ البداية, لكن مخرجنا في حديثه لصاحب تلك السطور قبل مايزيد علي عقدين من الزمان والذي جري في الاكسلسيور الشهير بجوار سينما مترو بسليمان باشا توقف طويلا عند واحد من تلك الاعمال وهو بئر الحرمان الذي قدمه عام1969, لقد أشار إلي المكانة الفنية المذهلة للراحلة سعاد حسني, وكذا القصة والتي كتبها إحسان عبد القدوس1919 1990), والسيناريو الذي وضعه اديب نوبل نجيب محفوظ, لكن لو قدر له وعاد يقدم القصة ذاتها لرفض رفضا قاطعا, وعندما سألته مندهشا لماذا؟ قال لدينا مجتمع له تقاليده وقيمه, فالمشاهد العارية التي ظهرت بالفيلم لا تستقيم مع مجتمعاتنا الاسلامية الشرقية الطريف أنه أكد في ذات الوقت أن اللقطات الجارحة كانت ضمن البناء الدرامي للعمل والذي لم يكن ممكنا الاستغناء عنها. علي اي حال يظل ما ذهب إليه رأيه الشخصي وقناعته في النهاية لابد من احترامها وإن اختلفنا معها في تلك الجزئية جملة وتفصيلا. نعود إلي الشريط الذي صور بالالوان الطبيعية كما كان يحلو للكثيرين آنذاك أن يقولوه في نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي, حيث كان الابيض والاسود هو السائد, وألوان إيستمان كلر هي الاستثناء الوافد حديثا إلي الشاشة الفضية, لكن المشاهد في معظمها بدت معتمة قاتمة والكاميرا تتحرك بايقاع حاد فاللقطات قاسية وغامضة تعكس في النهاية معاناة تعيشها البطلة محور الفيلم ناهد سعاد حسني1943 2001 المصابة بمرض ازدواج الشخصية, الشيخ وبطبيعة الحال يتدرج معنا ناصبا شباكه حول المتلقي المتلهف لمعرفة ما وراء السلوكيات المذهلة التي ترتكبها الشخصية الرئيسية في حق نفسها, فهي في النهار تعيش بشخصيتها ناهد العادية السوية, وفي الليل هي ميرفت الفتاة اللعوب, ويلعب الرسام عبد الرحمن ابو زهرة وحمزة الشيمي دورين اساسيين في زيادة الغموض الذي يكشف الستار عنه شيئا فشيئا الطبيب النفسي محمود المليجي1910 1983 ويضع يده علي الاسباب والعقدة النفسية المترسبة في داخلها منذ طفولتها إذ يكتشف الأب صلاح نظمي1918 1991 خيانة الأم مريم فخر الدين فيعاملها بجفاء الأمر الذي تعيش فيه في حرمان عاطفي, يترسب ذلك في أعماق ناهد و تشفي وتجد بجوارها خطيبها نور الشريف الذي كان متأكدا أن ماتعانيه لا ذنب لها فيه. في نفس العام يقدم الشيخ تحفة فنية حشد فيها نجوما كبارا يشار لهم بالبنان شادية, في دور زهرة محور القصة والفيلم, وعبد الرحيم الزرقاتي1913 1987 ويوسف وهبي1898 1982 وعماد حمدي1909 1984 وعبد المنعم ابراهيم1924 1987 وأحمد توفيق1933 2005 وأبو بكر عزت1933 2006 ووجوه شابة كعبد الرحمن علي نجم التليفزيون1941 1994 ونادية الجندي ويوسف شعبان وسهير رمزي, أنه فيلم ميرامار قصة نجيب محفوظ1911 2006, وسيناريو وحوار ممدوح الليثي, كمال الشيخ سينحو منحي سياسيا خالصا بيد أنه سيلازمه في اعماله التالية حتي إعتزاله دون أن ينحرف عن أسلوبه الإخراجي المميز وبتوقيعه وفي نفس السياق المؤدلج يقدم مخرجنا عملا آخر لا يقل روعة عن ميرامار زاد علي ذلك أنه بالتعاون مع رأفت الميهي الذي كتب السيناريو والحوار تمكنا من تحويل نص أدبي متواضع جدا خطه أحد اعضاء مجلس قيادة الثورة الضابط جمال حماد إلي رؤية سينمائية رفيعة كان هذا هو غروب وشروق بطولة سعاد حسني مديحة ورشدي أباظة1928 1980 عصام والطيار صلاح ذو الفقار1926 1993 احد أفراد شلة الانس البوهيمية قبل التحول, وإبراهيم خان1940 2007 سمير و كمال يسن ومحمد الدفراوي وصلاح نظمي وأخيرا, رجل البوليس السياسي محمود المليجي في دور عزمي باشا البطل الحقيقي للفيلم وسنلاحظ اسلوب الشيخ في الفلاش باك وتركيزه علي جعل المتلقي طوال العرض في وضع ترقب والحاح ماذا ستحمل اللقطة التالية ؟ وبعد عام واحد فقط يخرج نصا أدبيا شائكا لاحسان عبد القدوس أحداثه تدور في مرحلة ما قبل الثورة عام1952 وعكس الرواية التي تبدأ بفلاش باك طويل لا ينتهي إلا مع نهاية القصة, ينطلق الشيخ من بداية مغايرة ومختلفة دون أن ينتقص من الرواية التي تعد بدورها واحدة من درر الراحل إحسان عبد القدوس إنه يضع يده علي نقطة صعود الشخصية المحورية في الفيلم حسين شاكر الذي سيصبح واحدا من الباشوات الكبار في مصر المحروسة ومنها ينسج الميهي الذي كتب السيناريو والحوار خيوطه الدرامية ومن خلال تكنيك التشويق نتعرف علي محمد أفندي شكري سرحان1925 1997 وهو في الحقيقة تجسيد حي لشخصية حسين شاكر التي كان يتمناها ولكن جنوحه وطموحه نحو المجد غطي علي تلك الشخصية التي ظلت في أعماقه غير أنه صار ينتقم منها فيقع في غرام هدي ياسمين, ابنة محمد أفندي ويفتك بحبها وعذريتها وقبلها سطا علي جسد الزوجة تفيدة هدي سلطان1925 2006 ورغم أن الفيلم صور أوائل السبعينيات إلا أن الشيخ وبحرفيته العالية نقلنا جميعا إلي القاهرة كما كانت في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي لا مكان للهفوات إنها الأمانة, ويتباري الشخوص في مباراة تنافسية من الاداء وهم هنا صلاح منصور1923 1979 في دور عبد العظيم وماجدة الخطيب خيرية عشيقة الباشا ويالها من عشيقة, وحسن مصطفي في دور إسماعيل الموظف الخانع أمام سطوة الاقوياء. لكن مسيرة الشيخ سيجد هناك من يعكرها ففي عام1974 قدم الهاربة من تاليف رأفت الميهي وبطولة شادية وكمال الشناوي وحسين فهمي ولأنه يتناول فترة مظلمة من حياتنا والتي عرفت باسم زوار الفجر فقد تحالف رجال الرقابة علي الشريط وبعد سلسلة من الفحوصات البيروقراطية العقيمة وانطلاقا من مبدأ الأحوط خرج الشريط مهلهلا غير متماسك وضاع مضمونه, لكن الاجواء ستكون مواتية من جديد فبعد عام واحد قدم الشيخ علي من نطلق الرصاص1975 سيناريو وحوار رأفت الميهي والذي جاء تعويضا عن الهاربة بيد أنه حمل صرخة حرية وغضب ضد الفساد صبها الشيخ في قالب تشويقي بوليسي غاية في لاثارة, ولم ينس أن يغوص بكاميرته في دواخل شخصياته عاكسا مشاعرها الانسانية التي لم يعرف الإجرام طريقا لها, غير أن ضغوط واقع قاس لا يرحم استأثر فيه الكبار بكل شيء جعلت للرصاص مبررا وها هو مصوبها يسقط برصاص الأمن وفي مشهد بليغ تنقل سيارة الاسعاف القاتل مصطفي محمود ياسين والمقتول رشدي جميل راتب وكلاهما ينزفان ومع سارينات سيارات الاسعاف تبدأ الحكاية المتشابكة والمعقدة وفيها يموت القاتل رغم أنه هو المجني عليه لكن في النهاية لا مفر من العدل.