نحن نميل إلي إدراك الحقيقة, وندفع كل ما نملك لنصل إليها فلا يشفي الغليل سوي رؤية تلك الحقيقة الناصعة التي لا تحتمل الشك ولا تدفع إلي الوساوس أو القلق. واعتمادا علي أن لنا حواسا قد هيئت لنري بها, ونسمع ونشم ونلمس خاصة عندما نحتك بالواقع ونتعامل معه, كذلك لدينا عقل ندرك به الواقع ونري به الأمور كما هي أي لنبصر به الحقيقة, فإن البصيرة المركزة وخصوصا تلك التي تسعي إلي الوصول إلي الحقيقة الكامنة في نفوسنا تمكنا من التعامل مع كل مصادر الخطر, أو تدعمنا عندما نتعامل مع شخص يكون موضع ثقة أو حتي عندما يعاملنا أحد الأفراد بمراوغة كاذبة, أو استغلال بغيض, أو يحاول أن يستخف بعقولنا. هذه التصرفات العجيبة تضع النقاط فوق الحروف لما يمكن أن يسمي بسلوك البحث عن كل ما يلزمه ويفي بطلباته. واعتمادا علي ان الانسان يميل إلي أن يتصرف بطريقة تحقق له سعادته وتبعده عن مصادر الألم فنراه يسعي إلي تحقيق أهدافه التي تقوم بهذه المهمة, ويصبح كل سلوكه تفكيرا أو عملا يقوم به هذا الوجود البشري متجها به وجهة معينة قد توصله إلي الهدف المنشود أو قد تبعده عنه!! والانسان في سعيه الحقيقي نحو تحقيق أهدافه قد يمر بمواقف جديدة تتطلب منه جهدا وإدراكا للعلاقات التي تكون وتشكل هذه المواقف, أو قد يكون السلوك مكررا وخبرته معادة بصورة تكاد تكون طبق الأصل, أو مقارنة لما قد مر به من خبرات في مواقف سابقة. وإذا كان الهدف الذي يتطلع إليه الانسان هو كيف يتكيف مع البيئة وكيف يتصرف في الحدود التي تجعله متوافقا مع أفراد الجماعة, فإن ذلك الأمر يدعونا إلي طرح هذا التساؤل: ما الذي يدفع المرء إلي أن يتصرف تصرفات معينة في ظروف معينة؟ وما الذي يدعوه إلي أن يغير من تصرفاته أو يكررها في موقف آخر؟ هذه الأسئلة تجعلنا نتناول ما يسمي لزوم ما يلزم في المواقف وكأننا نستحضر لكل موقف ما يلزمه وما يتطلبه, وفي سبيل استحضار ما يلزم الموقف قد يصطدم بمواقف الاحباط التي تجعلنا لا نشبع ما نريد وإذا أردنا أن نضع الحلول لهذه الاحباطات فقد نجد أن الثقة تكون دائما هي المحك الذي يبحث عنه الذي يمنع العطاء, لأن الثقة في رأيهم لا يمكن أن تطرح بسهولة في الآخر ذلك الذي يمكن أن يتغير أو تطرأ عليه ظروف غير مواتية فتهتز فيه الثقة وتهرب منه مجموعة من الأحاسيس البديلة التي كانت تمثل العروة الوثقي في شبكة العلاقات الاجتماعية والحقيقة أن هذا الرأي يتماشي مع أصحاب الفكر المتأني الذي يكره التسرع في عقد أواصر الصداقة أو في الاعلان عن حبه ومشاعره وقد يعتمد هؤلاء علي أن الثقة لا ينبغي أن تبني بسهولة فهناك من يكذب أو يستغل أو يستخف بالعقل... من هنا تتزعزع الثقة ونتيجة لهذه الثقة المضطربة, يتأجل القرار, ويتأخر العطاء, ويكون نتيجة لهذا الاهتزاز قطع أحبال المودة التي كان يرجي أن تتكون كإفراز طبيعي لهذه العلاقة. والحق يقال: إن الثقة تحتاج إلي أن ننظر دائما إلي من نحب أن نتعامل معه بنظرة جديدة, ومن خلال هذه النظرة الجديدة نخرج كل ما يدور في داخلنا ونتجه بإخلاص وشوق لمن نحب دون أن نحجب شعورنا أو نؤجله لأننا لابد وأن نعلم أن المحب الواثق هو ذلك الذي يقوم بمهمات شاقة وهو مسرور من أجل من يحب حتي لو لم يكن وراء ذلك عائد نفعي فالحب المخلص يسعي دائما إلي تحقيق مطالب الآخر المحب ويعمل علي تحقيق سعادته لأن المحب الحقيقي يقدم مودته واستجاباته النشيطة لحبيبه فيتجه إليه ملبيا لمطالبه ويتعاطف معه في كل المواقف مهما كانت درجة سلبيته أو عدوانه فهي لفرط ثقته وشدة حبه يتقبل منه وينسي له كل الصعوبات التي يفرضها عليه. إن الحب يمنح صاحبه الرؤية الصادقة إذا كان عميقا ومخلصا, وهو الذي يدعم الوصال الراقي بين الانسان وحبيبه ويقدم له كل ما يلزمه من عواطف ومشاعر الحب وهنا يلزمه الصدق ويبحث دائما عن العطاء الايجابي من حبيبه فهو دائما يري في حبيبه كنز العطاء, لأن الحب تجربة رائعة يلزمها التفاعل ليتحقق الوصال الوجداني الذي يجعل كل محب يري لحبيبه كل ما يحقق له السعادة والتوفيق وهو بثقته الغالية يستطيع أن يقدم لحبيبه كل ما يلزمه بسخاء وعطاء متدفق. واعتمادا علي هذه الروح الشفافة ينطلق الحب دائما في رحاب الحبيب فيجعله جنة فيحاء وبستانا مملوءا بالأزهار الوردية التي تفوح منها رائحة الأمل والمودة فالحب لا يعرف الجفاء ولا يعترف بالتأجيل لإظهار العواطف, ولا يقدر كل من يحاول الهروب من حبيبه متذرعا بأسباب واهية لا قيمة لها تجعله يخفي مشاعره ولا يقدر أن يقدم للحب ما يلزمه من مشاعر وأحاسيس وإذا كان ذلك هو ميثاق الحب المخلص فلا يجوز للحبيب الذي يعلن عن حبه أن يتجنب العطاء أو يمنع الاحساس الكامن داخله لأنه ما أقسي من الناحية النفسية أن يستشعر الانسان في لحظة أنه كان مخدوعا أو قد وقع ضحية لضرب من عدم الوفاء وليس أقسي علي النفس البشرية من أن تتحقق يوما من أن كل الآمال التي نسجتها وزرعتها في أرض الحب قد ذهبت ولم تؤت بثمارها المتوقعة, وأن كل ما قد عايشته من أحاسيس لا يعدو أن يكون مجرد أوهام قد كشفت الحقيقة المرة عن زيفها وأظهرت خداعها, ودفعت الحبيب إلي الهروب من تقديم ما يلزم الحب. الحب لا يعرف الخداع والمراوغة ومن يري ذلك فهو الذي لا يعرف ما يلزم الحب... فالحب يلزمه الوفاء والاحساس الراقي والتفاعل السليم بعيدا عن المراوغة وتأجيل العطاء.. فالذي يراوغ ويؤجل عواطفه يعرف أنه من خلال هذه المراوغة أو التأجيل سيندم عندما يكشف الحبيب الذي تمت معاملته بهذه الطريقة المراوغة اللئيمة أن حبيبه تبادل معه المعاملة وهو حزين, وقرر أن يتركه لأنه غير جدير بالحب ولا يعرف كنهه وقداسته. لأن إذا كان الحب ملزما لكل انسان راق, فإن هذا الالزام يلزمه الود والاخلاص بعيدا عن الهروب أو المخادعة, فإذا كانت الوردة تنزعج من خطر الأصابع التي تسعي لقطفها, لكنها تنزعج أكثر من الأمان الذي يتركها تذبل علي غصنها... وإذا كانت قطعة الجليد تخشي شعاع الشمس, علي الرغم من أنها تحن إلي الدفء, فلا يجوز أن تفكر في الذوبان وإلا حكمت علي نفسها بالموت من الصقيع. ولا يعرف الحب التناقض ولا يعترف إلا بالوضوح والصدق والثقة ولا يسمح الحب المخلص أن يتوه في زحمة الأفكار الضاغطة التي تحاول جاهدة أن تمنعه من الاعلان عن نفسه بصدق وحنان وحنو ومودة لأنها أفكار مزيفة وكاذبة والحبيب الذي يعامله حبيبه بجفاء ولا يعرف ما يلزم الحب, يشعر بالحزن وتسبقه دموعه الحزينة, لكنه اعتمادا علي إخلاصه بجعل دموعه تغسل آلامه, ومن خلال ماء هذه الدموع يروي الحبيب عطش أحلامه, لعله ينسي هذا الجفاء ونكران الجميل البغيض وعدم الاعتراف بفضل الحبيب المخلص... الذي راح ولن يأتي!! وتلك هي الخسارة الحقيقية. رابط دائم :