* إذا كانت اللغة هي التعبير للتفاهم أو رغبة في توصيل شيء معين.. فهي في الفن بصفة عامة غاية فنية أو خلق جديد مغاير ليرسم لك بألوانه المتعددة لوحة تبهرك بظلالها وجمال ألوانها.. أو قصيدة لا تستأذنك في الدخول إلي إلي دهاليز عواطفك.. أو رواية تعيش أحداثها وكأنك أنت بطلها المعجون بكل تصاعداتها وتموجات أحداثها وانسيابية السرد والعرض في تلاحق صورها لتجعلك تنسي أنك انت رواية تعيش أحداثها بعذاباتها وشجنها الخفي.. ومتعتها الروحية وتهويماتها الصوفية الصافية.. وعذوبتها وشاعريتها.. وتدفقها داخل مسارب الشعور لديك. * لوحة غامضة تجذبك إليها.. فتبهرك من أول نظرة.. وتلقي عليك محبتها.. قبل أن تسترسل في تأملها لتلتهمها بمذاقات صوفية.. وتوقظ فيك رغبة الوصول بمتعة وشجن.. وشوق خفي.. وتصعد بك متلهفا للاندماج بها وبأحداثها وشخصياتها.. ربما ارتحت نفسيا إلي فك رموزها.. وحينها تفتح لك أبوابها السحرية.. فتبهرك حجرات قصورها المتضخمة بالعطر.. وتتلمس بساط ممراتها الحريري.. وتجلس علي أرائكها المصنوعة من عطر وسحر.. والمطعمة بالياقوت والزمرد.. وكل ألوان وأشكال أحجارها الكريمة.. التي يندر أن تراها ولكنك تجدها بين أصابعك ممسكا بها.. منغمسا في سحرها والنظر إلي ضخامة لوحات جدرانها العالية.. منبهرا بطلائها الذي يخطف القلب قبل العين.. ومشدوها باتساع وعبقرية بنائها الذي يمزج التاريخ بالحاضر.. فيقلب عليك مواجع التاريخ بحكاياته العجيبة فيجببه إليك أحيانا.. وينفرك منه أخري.. وقد يقذف بك علي أرض صلبة.. تكسر زجاج أبراج شفافيتك العالية لتواجه واقعك.. وجها لوجه.. أو تفر منه ولكنك لن تنساه مهما حاولت. لأنه أصبح مطبوعا داخلك.. فتأخذك من يدك في حنو.. وتمسح علي رأسك كأم جاءت تحكي لابنها.. حكاية من ألف ليلة وليلة وأنت ممدد علي سرر من سندس واستبرق.. تعيش تاريخك وتحمل جيناته التي لا تتغير الا بطفرة عبقرية.. كما في نهاية رواية نسكافيه.. والتي تبهرك وتستفزك للاستمتاع بها.. قبل أن تبهرك سر همساته التي قد تصرخ فيك أحيانا.. أو تحتضنك وتلتف بك وتلفك كحلم ناعم حريري الملمس باسم الاسارير.. يرفعك إلي السماء السابعة هائما منبهرا بمتعة سحر صورها واحترافية تناول كلماتها.. وقد يتركك تلقي نظرة علي ما يتخاطر علي ذهن الكاتب فلا تشعر إلا وقد ألقيت بنفسك أو يلقيك فكرك علي واقع يهشمك فيه الذهول أو الصدمة. أو يعمل علي إيقاظ فكرة قد تكون اكتشافا جديدا كنت تبحث عنه. * هذه الرواية ما هي إلا قصيدة شعر رومانسية لا ينقصها إلا مقتضيات الخليل بن أحمد الفراهيدي حتي تصبح قصيدة من الشعر الذي لم يكتب بعد.... وسأتحدث بإيجاز سريع عن اللغة الشعرية عند الكاتب *** اللغة الشعرية في رواية نسكافيه * في تقديري أهم ما يميز الرواية فأنت أمام قصيدة مطولة.. كتبها السيد حافظ بربابته الشجية التي تبهرك معزوفاتها المتعانقة في خطين يلتقيان فيصنعان زاوية انبهار منفرجة الأسارير حينا.. وحادة الإصرار أحيانا.. * أو يمتدان في استقامة وتواز يغريك لحث الخطي.. لتصل بك سريعا إلي محطة أراد الكاتب قبلها أن يقيم علي جانبي الطريق استراحات عشق وألق ومكعبات وشوق ونزق.. ليركن فيها إحساسك بإيحائية المبدع المباشرة.. وغير المباشرة بين تنهيدات صوفية.. وهمسات إرشادية.. أو صرخات تحذيرية وتتمثل إيجابية النص في استدعاء رؤية الكاتب باحتراف وتفرد في سرد أحداث الرواية. فحينا خط الرؤية الحالمة.. حلم طموح.. يستشرف أملا يفتح لك سماوات تحقيقه ويمنحك جناحين من عطر وبهجة تتمني أن تظل بهما محلقا متمنيا ألا تفوق أبدا. * وحينا خط الرؤية الصادمة.. فلا تملك ازاء كابوسية الرؤيا عند الكاتب إلا أن تفيق وقد تملكتك الرغبة في تغيرها وإيقاف تدفق ايقاعها الصارخ. * رواية نسكافيه فنجان سحر.. وشعر.. وعطر.. لا تملك إلا أن تتسلق إبخرتها المتصاعدة وتتسارع وتتصارع معها لتتحول إلي روح حالمة تحلم بالرجوع إلي عش الوطن أو قلب الجبل أو بيت قرية نامت علي ضفاف ممراتها المائية أشجار الصفصاف تغسل شعرها وتنتظرك في أبهي طلة وصورة.. فتحولك ساحرا وشاعرا وحامل مسك. في هذه الرواية يتعانق خطا الرؤية الحالمة والصادمة ويلتفان جديلة عربية الملامح.. شعرية المقاطع.. صوفية الإحساس يطوف بك بلدان الحدث عربية الملامح متوردة الخدين تحتويك لتشعرك أنك كائن حي.. تتكشف أمامه صراعات الشخصيات ما بين الرغبات الجامحة أحيانا.. وتصرفات الجارحة أحيانا ويشعرك تتابع وتعاقب إيقاعهما دون أن يمتزجا أنك تلمس أحدهما وتبصر الآخر خطان يواجهانك.. رافعين سلاح المواجهة إزاء مواقف ومشاهد تسلسل الرواية.. يشهر كل منهما تحديه لمواجهة اختلاف الآخر ليأتيك السيد حافظ عازفا بربابته الشجية حاملا تحويجاته الصوفية الرائعة.. كملك يحمل العطر والبخور والمسك ليلقي بك روحا تسبح رؤاها في هذه الأجواء العطرة مع إيقاعاته العذبة الفرح أحيانا.. والشجية أحيانا أخري أو يلقي بك شهقة تطلق بعهدها زفرة تعجب وانشغال ويتركك متأملا لما آل إليه الحال تفكر في سكة وصول.. أراد الكاتب أن يأخذك إليها ويجعلك تصرخ إعجابا باسطا جناحيك مستمتعا بالدخول من وصيد استمتاعك.. ودهشتك هاربا من وطأة الحدث أو منغمسا فيه.. سابحا مع نسمة حانية مبهرة تحتضن فيك احساسا خفيا يأخذك وينتهي بك علي عتبات عالم لا تستطيع معه صبرا فيكشف لك سر المتعة الصوفية ودفقة الامتاع والتمتع خطان من تحويجات صوفية رائعة يقدمهما إليك حامل الربابة.. ملك البخور والعطور والمسك والذي ما إن تشتم عطوره فتعجن بالرغبة في إكمال ما بين يديك ويتركك تتضخم بإيحائياته التي لا تلغي مساحة التفكير عندك ليسمح لك بالتوصل معه و الطواف حول مدلولاتها تتلمس احجارها المتوهجة وتقبلها مستلذا بمذاق سحرها متمنيا أن تعيش بجانب طهارة تعبيراته ونقائها لعلك واجد نفسك في مواجهة باب الحلم الشجي الذي قد ينفتح لك فجأة بسلاح ربابته وعطر تحويجاته الصوفية الرائعة أو يتركك مبهورا بسحر وعطر تحويجاته منتظرا لحظة الإذن بدخول عالمه الساحر الذي يعيد إليك التاريخ مصبوغا برؤية الكاتب. *** السيد حافظ قدم لنا في هذه الرواية تركيبة شعرية والتي لولا خلوها من أوزان الشعر لجننت بها شعرا ولكانت قصيدة مطولة غير مسبوقة فقد جهز لنا الكاتب موائد تكتظ بالبهارات والتحويجات العطرية الصوفية الرائعة وكئوسا من العطر ومشهيات من المسك والعنبر فمفردات اللغة وعلاقتها ببعض أبدع في صياغتها كما يفعل صائغ المجوهرات الخبير فأبقي علي التواصل بينه وبين المتلقي يحيطه بإيقاعه المتفرد في حيز رؤيته ليستقبل دفعاته الإبداعية دون أن يتغرب عنه أو يتركه منشغلا بصورة جزئية أو بقعة لونية شاردة قد تبعده عن النظر الكامل للوحة والاستمتاع بها وقد أبدع الكاتب في تناول مفردات اللغة ليصنع لنا لغته الشعرية الخاصة به.. ممزوجة بتوهج تنهيداته الشعرية مزيجا من همساته الصوفية أحيانا.. والمحذرة أحيانا أخري متداخلة في أحداث الرواية أحيانا.. ومبتعدة عن سياقها أحيانا أخري ليريحك لحظة تسترد فيها أنفاسك لتتتبع أحداث الرواية مسحورا من جديد ومبهورا بانسيابية تدفق إيقاعاتها في شغف وانبهار. *** ان هذا النزعة الصوفية عند الكاتب جعلت تعامله مع الكلمة الشعرية تعاملا مرغوبا فيه ومرحبا به فقد تناول وتعامل مع الكلمات والعبارات بكل مقومات وخصائص اللغة الشعرية في نص روائي.. فيمتزج الشعر بالنثر والحاضر بالماضي في تركيبة شعرية يدعوك بها الكاتب إلي الدخول لقصره الفخم ببنائه المعماري الضخم الذي لا تملك إزاءه إلا أن تحطم كل ما عرفته عن أبنية الرواية حديثها وقديمها ويفتح لك أبواب هذه القلعة البنائية بلا حراس لتدخل مندمجا في عالم أشبه بالأساطير بل هو الأساطير نفسها فتبهرك رقة تناوله للكلمة بشاعرية وطلاوة وتقديمها إليك علي أطباق من الذهب والفضة فتشرب من أباريقها عطرا شرقيا معتقا وتلمح علي جدرانه تاريخ حضارات مضت إنه عالم ساحر وتناول راق لمفردات الكلمات لتجد نفسك أمام شاعر من شعراء الإلياذة عاد إليك توا وجاء لك خصيصا يعزف لك التاريخ بسحره.. حلوه ومره ويعصر لك بعضا من حضاراته القديمة ليحييك بتحية عصرية وصورة إبداعية صافية سريعة التأثير يلتقطها بكاميراته الحديثة فائقة الوضوح.. وإن كانت متعددة الأبعاد تتخطي المعقول واللامعقول وتمزج ماضي الزمان بحاضره ان تناول الكاتب لصوره.. يطغي عليه روح الشاعر فتقف مشدوها هل أنت أمام شاعر.. يجمع في يديه كل أدوات الشعر الذي لا يتبقي له إلا العروض لتصبح الرواية ديوانا من الشعر أم انك أمام رسام.. متمكن من ألوانه فعبر عن تلك الألوان بكلمات أضافت إلي اللوحة أبعادا جديدة.. سحرية المشاعر والمواقف ممزوجة باندفاع القبول حينا.. ومحفوفا بمخاطر الرفض أحيانا وبالتعجب والدهشة أحيانا أخري لقد استطاع الكاتب أن يطوع كل الظواهر الاسلوبية من ألفاظ.. وصور.. وخيال.. وعاطفة.. وموسيقي تمتزج كلها معا لتكون لنا رواية نسكافيه عبارة عن قصيدة لا ينقصها إلا العروض لقد ارتقي بكل هذه الأدوات إلي مصاف العمل الشعري مغردا في آفاقه وسماواته بالتمرد حينا وأحيانا بخروجه علي ما هو متعارف عليه وارتقي بكل مكوناته النثرية التي تداخلت مع المكونات الشعرية فسرد لنا بلغته الشعرية عالم رواية نسكافيه لقد حمل اللغةأقصي ما يستطيع أن يبهر به فكر القاريء ووجدانه وحمل لغة الرواية كل ما يستطيع من البوح به أو الإيحاء إليه في تناسق موسيقي بديع ما كان لينقصه إلا الأوزان العروضية للقصيدة لنقول ان نسكافيه قصيدة شعر.