قليلون اولئك الذين عاشوا حياتهم في ظلال القرآن الكريم يتتبعون أسراره ويحاولون تدبر معانيه ويجاهدون في الوصول إلي تفسير آياته ومعانيه ولكن تبقي حلاوته وطلاوته علوا في المقام والمقامة لا يعلوا عليه انسان يذكره التاريخ فقيها ومفسرا ورعا وقورا, صبورا علي الفقر نبغ في تعلم التفسير وتعلم الكلام الذي هو أحد أبرز العلوم الإسلامية الذي يهتم بالعقائد الإسلامية وإثباتها بالأدلة العقلية والنقلية.. وتعرفه الكثير من الكتب التاريخية بشيخ المعتزلة وهي فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي, وقد اعتمدت علي العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدي إلي انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية. هو عبدالرحمن بن كيسان الأصم ولد في القرن الثاني للهجرة في201 ه/816م بمدينة البصرة بالعراق, كان الشيخ الأصم يستعين بسيرة رسول الله في تفسيره لبعض آيات القرآن كما كان يستعين بأحداث من السيرة في بيان أسباب النزول. اتبع أبو بكر الأصم المنهج الجدلي لانه متكلم قبل أن يكون مفسرا ويظهر البعد الجدلي والكلامي جليا في تفسيره, فهو يكثر من التقسيم المنطقي والاستدلالات الجدلية وإقامة الحجج العقلية المحكمة. وقد اجتهد الاصم في علم التفسير فكان يستعين أحيانا بآيات قرآنية لتفسير آية أخري, وهو ما يعرف بتفسير القرآن بالقرآن, ويري الأصم أن الملائكة أفضل من البشر, واستدل علي ذلك بقوله تعالي:( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته) ويستنتج الأصم من قوله تعالي: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) بأن الوضوء جائز بجميع المائعات, موافقا في ذلك قول الأوزاعي. وينقل الأصم في تفسيره عن جملة من مفسري الصحابة والتابعين, فينقل عن ابن عباس فيوافقه في مواضع ويخالفه في مواضع أخري, كما نقل عن الحسن البصري ووافقه في تفسير آيات عديدة ولكن هذه الموافقة لم تمنعه من الاختلاف معه أحيانا, كما نقل عن جملة آخرين من التابعين ممن وافقهم في تفسيرهم, وهم: الشعبي, وعكرمة, وقتادة, والزهري, وابن اسحاق, والأوزاعي, والسدي, والربيع بن أنس.. وفي بعض الأحيان كان الأصم يجهل المروي عنه. من اقوال الشيخ الأصم:( إن الناس لو أنصف بعضهم بعضا وزال التظالم وما يوجب إقامة الحد, لاستغني الناس عن إمام), وهو في ذلك يتوافق مع آراء أفلاطون في المدينة الفاضلة. وألف الشيخ الاصم العديد من كتب التفسير منها خلق القرآن, والحجة والرسل, والحركات, الرد علي الملاحدة, والرد علي المجوس, والأسماء الحسني, وافتراق الأمة وقد تأثر به بشر بن المعتمر, وأبو علي الجبائي, وأبو القاسم الكعبي, والإسكافي, محمد بن بحر الأصفهاني, والقاضي عبدالجبار واثر في واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. وصفه القاضي عبدالجبار بأنه تفسير عجيب حسن, وذكر أن أبا علي الجبائي المعتزلي لا يذكر أحدا في تفسيره إلا الأصم وذكر أحمد بن يحيي بن المرتضي الأصم في طبقات المعتزلة( المنية والأمل في شرح الملل والنحل) فقال:( كان أفصح الناس وأفقههم وأورعهم, خلا أنه كان يخطئ عليا في كثير من أفعاله, ويصوب معاوية في بعض أفعاله), وتوفي سنة279 ه/892 بمدينة البصرة ثاني أكبر مدن العراق.