وافق الشعب علي دستور ما بعد الثورة, إلا أن هناك نسبة كبيرة من الأمة لا توافق علي عدد كبير من مواد هذا الدستور, وتلك قضية لاتزال مثارة حتي اليوم رغم وعود الرئاسة بالعمل علي حلها وفق آلية معينة, كما أن هناك مواد يبدو أنها صيغت بصورة ما وتحمل ألفاظا حمالة اوجه لتقرير واقع يراد له ان يكون في المستقبل, وتلك من وجهة نظري هي الخطر. فالمادة رقم232 من الدستور تنص تمنع قيادات الحزب الوطني( المنحل) من ممارسة العمل السياسي والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور, ويقصد بالقيادات كل من كان عضوا بالأمانة العامة للحزب أو بلجنة السياسات أو بالمكتب السياسي أو كان عضوا بمجلسي الشعب أو الشوري في الفصلين التشريعيين السابقين علي ثورة الخامس والعشرين من يناير عام2011. وهي مادة العزل السياسي طبق مفهوم العامة, فرغم مخالفة حكم هذه المادة لفلسفة الدستور وروحه, وأيضا لنصوصه التي تقضي بأن المصريين جميعا متساوون في الحقوق والواجبات, وأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص, وقد كانت بالدستور الملغي لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص القانون, إلا أنه اضيف إليها في الدستور الجديد إلا بنص القانون أو الدستور, الأمر الذي لا سابقة له في جميع الدساتير المصرية السابقة, وأيضا دساتير العالم الحديثة, كما أن نص المادة هذا يحالف الاتفاقات الدولية التي شاركت مصر فيها وصدقت عليها وفق الدستور, وبالتالي عدت في مرتبة القانون المصري الصادر وفق صحيح الدستور والواجب مراعاة تطبيقه وإلا تعرضت مصر للمسئولية الدولية, لذا فإن نص هذه المادة يتناقض مع الدستور ذاته ومع الأعراف والاتفاقيات الدولية, بالطبع يعرف الجميع لماذا تم وضع تلك المادة في الدستور, لجعلها بالطبع بمنأي عن رقابة المحكمة الدستورية, كما حدث من قبل. ولكن للأمور وجهة نظر أخري يجب وضعها في الاعتبار, فضمن من شملتهم تلك المادة المسماة بالعزل السياسي رجال يتمتعون بكفاءات سياسية وإدارية وعلمية لا ينكرها أحد, كما أن منهم عددا لا بأس به لهم عزوة وثقل سياسي في دوائرهم الانتخابية, بصورة تضمن لهم الفوز في أي إنتخابات برلمانية, وقد كان هذا أحد أسباب استعانة الحزب الوطني بهم في السابق, فهل في هذا يكمن سبب وضع مادة العزل السياسي؟ من أجل أن يتجنب تيار الإسلام السياسي وأحزابه منافسة هذه الرموز في الانتخابات البرلمانية القادمة وتصبح خالية أمامهم من أي منافسة حقيقية, فتكون لهم الغلبة الكافية للسيطرة علي أعمال وما يصدر من قوانين من السلطة التشريعية؟ ويكتمل فهمنا للقصد الحقيقي من وضع تلك المادة بالدستور إذا طالعنا نص المادة رقم231 منه والتي تنص علي أن تكون الانتخابات التشريعية التالية لإقرار الدستور بواقع ثلثي المقاعد لنظام القائمة, والثلث للنظام الفردي, ويحق للأحزاب والمستقلين الترشح في كل منهما فيهما, وهي المادة التي حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها وفق الإعلان الدستوري الصادر من المجلس العسكري, وهو ما يعني أن تجري تلك الانتخابات التشريعية لعدد ثلثي مقاعدها وفق نظام القوائم المغلقة والتي تخدم فقط جماعتي الاخوان والسلفيين وتعطيهم فرصا أكبر للحصول علي أغلبية المقاعد, لضعف الأحزاب المعارضة وتفرقها وعدم اتفاق زعمائها علي أسلوب مناسب للعمل السياسي للفوز بالانتخابات القادمة, ولما يتمتع به هذا التيار السياسي الديني في الوقت الراهن من القدرة علي التنظيم علي حشد أتباعه وعامة الناس وبسطائهم( بوسائل لا تخفي علي الكافة وسبق إتباعها في الانتخابات السابقة والاستفتاء علي الدستور وأثبتت نجاحها الباهر). وتوجيههم للتصويت لأنصارهم, كما أن تلك المادة بسماحها للأحزاب بخوض الانتخابات المخصصة لمرشحي المقاعد الفردي يعظم فرص حصولهم علي أصوات أكثر من مقاعد السلطتين التشريعيتين لذات السبب ومزاحمة المستقلين الذين ليس لديهم في الأغلب الامكانات المادية والدعائية لمنافسة أحزاب التيار الديني في الوقت الراهن. ويعظم من فرص التيار السياسي الديني من الفوز وفق أحكام المادة231 من الدستور السابق ذكرها, عدم موافقة مجلس الشوري, والمخول له السلطة التشريعية مؤقتا لحين انتخاب مجلس الشعب الجديد, علي تعديل الدوائر الإنتخابية وجعلها أصغر بحيث تشمل كل منها علي الأكثر علي دائرة قسم شرطة أو مركز فقط, والحق أن هذا النظام كان قد أقر بقانون صدر من مجلس شعب النظام المنحل لتحقيق ذات السبب والذي كان يصب في مصلحته فقط, لأن إتساع حجم الدوائر الانتخابية من شأنه أن يجعل المرشح مجهولا لقطاع عريض من ناخبي الدائرة, الأمر الذي يضطر المرشح لكثرة التجوال لعقد جلسات جماهيرية لتعريف الناخبين لأول مرة به, وهو ما يرهقه وفي الغالب لا تسعف مقدرته المالية علي القيام به, فضلا عن صعوبة أن يعطي الناخب صوته وثقته لمرشح يراه ويسمعه لأول مرة, وبالتالي تعظم فرصة الأحزاب القادرة ماديا علي التعريف بمرشحيها وبرامجها الإنتخابية التي سيخوض الانتخابات بناء عليها مرشحو القائمة والفردي, وهي برامج يغلب عليها الشعارات الدينية التي تدغدغ مشاعر وأحاسيس المصريين, ذلك الشعب المتدين بطبعه وهوعلي استعداد لعمل أي شيء بقربه من الجنة ويبعده عن مخالفة شرع الله. فإذا وضعنا تلك النقاط في موضعها وسياقها الصحيح, ندرك جيدا انها ما وضعت في الدستور اعتباطا, وإنما لتمكين تيارات الإسلام السياسي وأحزابه من الفوز بأكثر عدد من مقاعد السلطتين التشريعيتين, والتي يقع علي عاتقهما في المرحلة القادمة سن وإصدار تشريعات مهمة تعيد تشكيل شكل وخريطة الحياة السياسية بمصر للفترة المقبلة, وأن تحدد طبيعة وانتماء القائمين علي السلطتين التنفيذية والقضائية بمصر, الأمر الذي يعني ببساطة بسط الأبسطة الحمراء أمام التيارات السياسية الدينية لتحكم مصر وتسيطر علي سياساتها لفترة مقبلة ممتدة لا يعلم احد سوي الله عز وجل مداها...