في القطار العائد إلي الإسكندرية في آخر يوم طويل بالقاهرة, جلست أطالع شاشة حاسوبي الشخصي, وأراجع بعض الأوراق, ويبدو أن الجالس إلي جواري توهم( ربما لسمك زجاج النظارة التي استخدمها) أنني واسع الاطلاع, أو ربما كنت مفكرا( نحن في زمن عز فيه التفكير, رحم الله صديقي المفكر حمدي عزب). التفت إلي الرجل وبادرني بالسؤال, هل تسمح لي بالحديث معك؟ وأردف مبررا, أود أن أتعرف علي رأيك فيما يجري في الوطن من أحداث. أجبته مرحبا بالحديث وعلمت أنه ضابط في القوات المسلحة( وربما مخابراتها). كنا قد أقتربنا من الجولة الثانية( والنهائية) من الانتخابات الرئاسية إبان المرحلة الانتقالية التي أدارها المجلس العسكري بما له أو عليه, وسألني عن رأيي في المرشح ذي الخلفية العسكرية, أفصحت عن استهجاني لمحاولة زرعه رئيسا, وأسهبت في توضيح أسبابي متعجبا من سقوط رأس النظام الفاسد, ثم محاولة ترشيح نائبه ليسفر الأمر في النهاية علي تسمية رئيس وزرائه, فتصوري أن ذلك الفعل يعد إهانة للثورة واستهانة بالثوار. سألني الرجل, وماذا سوف تفعل لو فاز الرجل؟ تعجبت من السؤال, وقلت عفوا, أنا لم أفهم معني سؤالك, ماذا تظنني بفاعل؟ فاستدرك الرجل موضحا بسؤال مباشر, هل تقبل أن تعمل معه لو كلفك بمهمة ما؟ قلت ياسيدي أنا لن أنتخبه, ولا أتمني نجاحه, ولكن لو أتت به إرادة شعبية نزيهة فإنه يصبح حينئذ رئيسا لكل المصريين, الذين انتخبوه والذين لم ينتخبوه, ووقتها سيكون التكليف بالعمل صادرا من رئيس مصر, وسأؤدي عملي بكل إخلاص وحرفية. هذا ببساطة فهمي للديمقراطية, فالمجموعة قبل الفرد, وأرفض الفعل الثوري الطفولي الذي يريد فرض رؤيته الذاتية دون اعتبار لرؤية المجموعة( مرسي ليس رئيسي فأنا لم أنتخبه), وأراه عملا فوضويا خالصا. استرجعت الحديث وأنا أتابع مشاهد وحوارات جبهة الإنقاذ, وسرادقات الاحتفال بالثورة التي تحولت إلي سرادقات عزاء( فعلا لا مجازا) وتساءلت في حيرة أين الخلل؟ لقد كانت ثورتنا إبداعا شبابيا مصريا خالصا, احتضنه الشعب كله من أجل التغيير, فكانت للثورة نجاحات وتحديات. * نجحت يوم أزاحت بعض الوجوه التي سممت المشهد السياسي ولكنها من أسف لم تزح أفكارها ونظامها, وعليها أن تستكمل مسيرتها وتزيح من يعيث في أرضنا فسادا. * نجحت حين كسرت خوف الناس من بطش الأجهزة الأمنية, ولابد من إلغاء صريح للمحاكمات العسكرية للمدنيين وإصدار قانون للعدالة الانتقالية لمحاسبة كل من تسبب في ارتكاب جرائم قتل أو تعذيب أو انتهاكات لحقوق الإنسان, * نجحت حين أزالت هالة القدسية والخطوط الحمراء التي كانت تحيط بالرؤساء والوزراء وكبار المسئولين, فأصبحوا يراجعون ويساءلون ويحاسبون, وتأكد للجميع أن الخطوط الحمراء إنما هي سيادة الشعب ودماء المصريين, ولكن البعض لا يفقه ويريد إعادة إنتاج الممارسات مع تغيير الوجوه, * ونجحت الثورة حين أصبحت العدالة الاجتماعية هي هم الحاكم قبل المحكوم, بعد أن كانت عنصرا غائبا عن السياسة والاقتصاد, ولكن الطريق لتحقيقها طويل وصعب, ولابد من محاسبة من استخدم السلطة والنفوذ لنهب المال العام وتحقيق ثراء غير مشروع. * ونجحت الثوة حين كسرت القيود علي العمل الاجتماعي والسياسي فصعد التيار الإصلاحي الأقوي من بين فصائل المعارضة, ولكن واجهت البلاد أزمة الحكم من قبل فصيل هو الأقدر تنظيميا, إلا أنه الأفقر سياسيا, فثارت التساؤلات عن العلاقة بين الدين والدولة, ومعني وكيفية تطبيق الشريعة, وحدود الحريات الشخصية, والتداخل بين الخاص والعام, وماهية الهوية الإسلامية!! ** وواكب قيام الثورة تحديات, تمثلت في وجود أزمة اقتصادية طاحنة, تفاقمت بغياب القدرة علي ابتكار الحلول لمجابهتها واستنهاض الهمم لمحاصرتها, تراكمت بفعل سياسات فاسدة, وتزامنت بفعل أزمات مختلفة, وجاءت ألاعيب السياسة التي شغلت الحكام عن البناء الجاد والتعامل مع موجات الاحتجاج الاجتماعي المصاحبة للتردي الاقتصادي, * وهل أتاك حديث صاحب فضحية تزوير الانتخابات البرلمانية الأشهر, والتي أثارتها زينة قاضيات مصر, فكانت إحدي الشرارات التراكمية التي أشعلت الثورة بينما هو يطلب من الجيش القيام بدوره( الوطني) في دعوة صريحة لانقلاب عسكري بغيض. التحدي الأكبر أن النظام الذي ثار الشعب ضده, لم يسقط بعد, فهو لايزال منغرسا في حياتنا وواقعنا بل وثقافتنا, ومازالت لديه القدرة والنفوذ والتأثير, بل والمشاركة في الحكم والمعارضة معا!! في عيد الثورة أرصد أنها رغم ما حققت, قد وقعت ضحية نقاء شبابها وطهارة ثوارها, وشراسة أعدائها, وخيانة نخبها. لم نحصد ثمارها بعد لأننا ما زلنا مختلفين علي آلياتها, مرتبكين إزاء تحالفاتها, تائهين في مراحلها الانتقالية, ضائعين بين ألاعيبها القانونية التي أسلمتنا لانتهازية مصالح البعض الرخيصة. واجبنا الوطني يحتم علينا أن نلفظ الممارسات المشبوهة, والمزايدات الرخيصة, ونفكر كيف نعزز مسيرة الثورة ونعيد ضبط بوصلتها في اتجاه الحرية والعدالة الاجتماعية ودولة القانون. رابط دائم :