شهران لم يدفع الايجار. محفظته المسروقة لم تكن هي السبب الوحيد, فهناك الالتزامات المالية الجديدة التي طرأت: علاج زوجته في المستشفي, وموسم الامتحانات الذي هل ومعه حمي الدروس الخصوصية لإبنيه.. وحكي ظروفه لجاره لعله ينقلها لصاحب البيت فيعذره. طفرت دمعة من عينيه ويد جاره تمتد له بسلفة لم تمتد يده لتسلمها من أي إنسان من قبل. كانت نيته معقودة علي تسديد الأجرة لصاحب البيت والدين لصديقه, ولكن مرت الأيام ولم يحدث.. لم يتمكن, وها هو الشهر الثالث يدخل وعليه أجرة البيت المكسورة. راح يهرب من رؤية صاحب البيت, وكان الرجل يسأل عنه فيجيبه ابنه بأنه خرج أو في عمله ولم يعد بعد. تجنب رؤية الجار أيضا, وعند مقابلته صدفة علي السلم كانت نظراته تقتله, وكان أهون عليه أن يطالبه بالدين صراحة من أن يقرأ في عينيه اتهاما, كان يفضل أن يموت ولا يقرأ في يوم من الأيام مثل هذا الاتهام في عين أي مخلوق. هو من سلالة لم تعرف الفقر وأيضا لم تعرف الغني, ولكنها لم تتلوث أو تسقط عندما سقط الكثيرون. عندما فرجت باستلامه مستحقات متأخرة من عمله أخذ يسدد ما عليه بالتدريج علي أقساط. وفي يوم وهو عائد في الأتوبيس والزحام يشتد من حوله لم يتمكن من إخراج محفظته لدفع التذكرة, انتظر الكمساري أن تحل عقدة يده لتخرج ثمن التذكرة, ولكن طال الوقت ولم يحدث, مظهره المحترم جعل الكمساري لا يلح في الطلب ويتركه متجها إلي ركاب آخرين إلي أن يتمكن( أو لا يتمكن) من إخراج( الفكة), تعود الكمساري علي التعامل مع كل أنواع الركاب, فمنهم من لا يدفع لأنه سينزل حالا أو لأنه ركب الأتوبيس الخطأ, ومنهم مثل هذا البيه من لا يدفع تهربا أو لأي حجة من الحجج, بينما.. قد يكون السبب الحقيقي هو ارتفاع أثمان أجر الركوب في الآونة الأخيرة, وأصبحت تكلفة المواصلات شهريا لمثل هذا المحترم أو ذاك من تلك الشريحة( الغلبانة) من طبقة المواطنين, فلا داعي اذن لأن يحرج أحدهم وليتظاهر بتصديق حجته لعدم إخراج النقود. بعد عذاب استطاع إخراج محفظته المحشورة في جيب جاكتته, وبعد مصارعة الوقوف في خضم الزحام وتلاطم الاكتاف استطاع أن يلتقط منها عملة ورقية, وعندها نظر حوله فلم يجد الكمساري, كان الرجل قد انتقل إلي أول المركبة ليحصل ثمن التذاكر من بقية الواقفين, وقد نسي تماما صاحبنا( البيه) الذي لم يتمكن من إخراج النقود بسبب الزحام, أما هو فنادي علي الكمساري ليأتي يحصل منه ثمن تذكرته فلم يسمعه, رفع صوته فحجبته الضوضاء والزحام عن المحصل, وصرخ فيه مرة ثالثة ورابعة, طلب من الركاب أن يوصلوا صوته اليه فنادوا عليه, التفت الكمساري أخيرا من بعيد ونظر اليه حيث تركه في آخر المركبة, ثم سمعه وهو يردد في عصبية وبأعلي صوته: أنا بقالي ساعة بنادي عليك عشان تاخذ مني ثمن التذكرة.. أعمل لك إيه أكثر من كده؟. نظر الواقفون اليه في دهشة ثم تسلم منه أحدهم العملة الورقية لتنتقل من يد إلي يد حتي تصل للكمساري كي تعود اليه بعد ذلك بالباقي وهو بعض الفكة. كان الأتوبيس قد وصل إلي محطته, لم ينتظر لتسلم بقية ثمن التذكرة أسرع ليخلص نفسه من الزحام وينزل, وفي الشارع تنفس الصعداء وشعورا جديدا ومبهما بالرضا والارتياح يغمره, فسار مرفوع الرأس. جهاد الرملي رابط دائم :