المرور مشكلة اقتصادية وسياسية, فالموارد الهائلة التي تضيع علي مصر والمصريين في الشوارع المزدحمة يمكن لها أن تسهم في تحسين وجه الحياة علي أرض مصر. أما بالنسبة للدولة فإن مشكلة المرور المزمنة تقدم دليلا حاضرا طوال ساعات النهار وأغلب ساعات الليل علي إخفاق أجهزة الدولة وضعف كفاءتها وعشوائية تخطيطها وعجزها عن تطبيق قوانين تقوم بسنها, وهي مشكلات سياسية بامتياز. التعامل مع مشكلة المرور يحتاج إلي أفكار مبتكرة, وقد تكون فيما يلي واحدة منها. ففي مدينة مثل القاهرة تتركز مشكلة المرور في منطقة وسط المدينة وفي بعض الأحياء الجاذبة للمحلات التجارية والمكاتب الإدارية, والمطلوب هو تخفيف الضغط عن هذه المناطق والحد من جاذبيتها للأنشطة التجارية. من الممكن تحقيق ذلك عبر رفع رسوم ترخيص الأنشطة التجارية والإدارية في هذه المناطق, علي أن يكون الرفع كبيرا لدرجة تشجع أصحاب الأعمال علي الرحيل عنها. الفكرة تبدو بسيطة, ولكنها تحتاج إلي تعديل جوهري في أساليب الإدارة العامة في مصر. الاتجاه السائد في أجهزتنا الإدارية يقوم علي التعميم وتجاهل التفاصيل ففيها تسكن الشياطين. تكلفة الترخيص لأي نشاط تجاري أو إداري في الوقت الراهن متساوية بين مكان وآخر بغض النظر عن أي اعتبارات. أنا لا أتحدث عما إذا كان النشاط التجاري يقع في منطقة غنية أو فقيرة, إنما أتحدث عما إذا كان مقاما في منطقة مزدحمة, يجب للمكاتب والمحال التجارية أن تخرج منها حتي تستعيد مستوي مناسبا من الهدوء ويستعيد المرور فيها قدرا مناسبا من السيولة, أم إذا كان واقعا في منطقة مهجورة تحتاج لجذب أنشطة اقتصادية حتي تدب فيها مظاهر الحياة وتجذب مزيدا من السكان. تطبيق هذه الفكرة ليس بالأمر السهل, فهناك أصحاب أعمال سيقاومون أي ارتفاع في رسوم استخراج التراخيص, وهناك ملاك عقارات يريدون تحويل الشقق السكنية إلي مكاتب وعيادات مقابل إيجارات مرتفعة وبلا قيود, وهناك سكان تحولت مناطق اختاروها للسكني من أجل هدوئها فتحولت بعد فترة إلي جحيم لا يطاق, وهناك المصلحة غير المباشرة لباقي أهل المدينة الذين يقضون ساعات طويلة محتجزين في الشوارع المكدسة عند مروهم بالأحياء المزدحمة, وهناك أجهزة الإدارة التي تكره' وجع الدماغ' الذي يأتي مع هذه الطريقة في إدارة المدينة, وهناك ضعاف النفوس الذين قد يجدون في كل هذا فرصة إضافية لتحقيق مكاسب غير مشروعة, والمطلوب هو التوفيق بين مصالح كل هؤلاء.