ابتسمت في مرارة حين تطلعت إلي لافتات المحال.. ملابس أوول سايز عطوة دراي كلين كوافير جولدن مان برعي بيتفول جيرل لتأجير فساتين الزفاف أسماك سيلفرنايل ساندويتش هابي داي.. مررت علي ما تبقي من حقول القرية.. وجدتها تغط في سبات عميق اللهم الا بعض البقع الخضراء التي تتناثر هنا وهناك علي استحياء...!قادتني قدماي إلي قريتي الصغيرة القابعة وسط الدلتا.. كنت محتاجا للترويح عن النفس مما تعانيه من أحداث الفترة الراهنة.. مللت حالة الفوضي التي اصبحت تغلف حياتنا ووقائع الاضرابات والمظاهرات الفئوية وغير الفئوية فضلا عن الانفلات الامني والاخلاقي الذي نعاني منه والذي أصبح سمة من سمات الشارع المصري.. كان الطريق بحمد الله كما هو محاطا بأشجار علي الجانبين كما رأيته منذ وعيت علي الحياة في أربعينيات القرن الماضي.. لكن مدخل القرية كان ينبيء عن أشياء وأشياء.. كتل خرسانية ضخمة تصدم العين للوهلة الاولي وتعديات لا حصر لها علي الاراضي التي كانت تسمي زراعية.. هجر شباب القرية حقولهم ليرتدوا الجينز ويمسكوا بالمحمول واقفين علي نواصي القرية.. صدمت حين علمت بالانفلات الامني يجتاح القرية.. حوادث سرقة وسطو وتحرش واغتصاب ومعارك بمختلف أنواع الاسلحة تنشب باستمرار..! تجولت في حواري وأزقة القرية التي تحولت إلي اشياء اخري بعيدة تماما عن جو الريف الذي ألفناه.. انتشرت محلات الفيديو والجيم والسوبر ماركت وصالات البلياردو..وو ابتسمت في مرارة حين تطلعت إلي لافتات المحال.. ملابس أوول سايز عطوة دراي كلين كوافير جولدن مان برعي بيتفول جيرل لتأجير فساتين الزفاف أسماك سيلفرنايل ساندويتش هابي داي.. مررت علي ما تبقي من حقول القرية.. وجدتها تغط في سبات عميق اللهم الا بعض البقع الخضراء التي تتناثر هنا وهناك علي استحياء...! واريت هذه الصورة عن ذهني تماما لتحل محلها صورة قريتي التي عرفتها في خمسينيات القرن الماضي حين كان والدي رحمه الله يصحبني اليها وأنا في ميعة الصبا كما يقولون.. كنت انطلق في بشر وسعادة مع أقراني وسط المروج الخضراء ممتطين ظهر حمار أو متربعين علي ساقية تدور بأزيزها الجميل.. كان الفلاحون من أهل قريتي يخرجون من دورهم عقب صلاة الفجر فرادي وجماعات يجرون خلفهم بهائمهم التي تحفظ الطريق عن ظهر قلب حاملين فئوسهم علي اكتافهم بينما المقاطف تتراقص من خلفهم.. أما حقول القرية فكانت ميدانا عظيما لمباريات كبري في الكد والعرق بآلات ووسائل بدائية وتقليدية بعيدا عن الميكنة.. كان الفلاح يتباهي بكل حبة عرق يروي بها ارضه.. فهذا يغوص بفأسه في أعماق التربة, وذاك يروي حقله بالطنبور أو الشادوف أو من خلال الساقية التي تصدر أزيزا متناغما مع خطوات البقرة أو الجاموسة مغمضة العينين... ومع آذان الظهر تحضر النسوة حاملات الطعام للأزواج ثم اعداد الشاي علي نيران الحطب لتعود الكرة من جديد حتي حلول المساء.. كانت المتعة الوحيدة لهم هي التجمع امام متجر القرية الرئيسي علي ضوء الكلوبات مرددين بعض الاهازيج الجميلة وحكايات الزناتي خليفة وأدهم الشرقاوي وابو زيد الهلالي سلامة. وكانت مواسم الحصاد وجني القطن أفراحا حقيقية يتخللها الغناء علي أزيز النورج بينما الاولاد والبنات يمسكون بالمدراة يفصلون بها القش عن حبات القمح أو يجمعون القطن في تلابيبهم مرددين اغانيهم الشعبية الرائعة.. أما دور القرية فكانت مبنية من الطين والطوب اللبن لكنها تفيض بالخيرات.. كان دقيق القمح والذرة موجودا باستمرار بعد طحنه في مطحن القرية ثم خبزه في الفرن البلدي.. وكان اللبن الحليب يأتي طازجا باستمرار بعد حلبه من البهيمة الموجودة بزريبة الدار وكان يوزع احيانا مجانا علي من لا يملك بهيمة.. ناهيك عن وجود الخضراوات بانواعها الجافة والطازجة بينما الطيور تمرح هنا وهناك انتظارا لأي ضيف قادم قد يأتي فجأة.. فما هي الا دقائق معدودة حتي يجد الوليمة عامرة بما لذ وطاب.. وكانت ليالي الشتاء في القرية ذات مذاق متفرد.. كان البرد أيام زمان شديدا قارسا يدخل العظم كما يقولون, لكن متعة النوم علي الحاصل أو حجرة الفرن لا تعادلها متعة أخري. وإذا ما تحدثنا عن أخلاق وسلوكيات القرية وأهلها سنجد كل المعاني والقيم الجميلة التي ضاعت وتلاشت تماما من حياتنا.. كان الفلاح شهما أصيلا ذا مروءة فخورا بأنه فلاح وكان ابناء القرية كلهم يقدسون التكافل والتراحم فيما بينهم. كان هذا هو حال القرية المصرية في سائر ربوع مصر.. في الدلتا والصعيد وشرق وغرب الوادي لكن اصابه ما أصابه..!! عدت مرة أخري إلي القاهرة, وكان الخاطر الذي يلح علي هو ان هذه لم تعد قريتي!