تمثل الكافيهات المنتشرة والمتناثرة علي جميع بقاع المحروسة ظاهرة تستوجب التوقف عندها بالرصد والتحليل, فالقضية ليست مجرد اماكن للتجمع الاجتماعي داخل الحزام السكني. بل تتعداها لكونها ظاهرة مجتمعية ذات صبغة سرطانية ودلالات ظاهرة وخفية يمكن رصدها من خلال ما درج عليه المجتمع من ثوابت وما طرأ عليه من متغيرات. فمما لاشك فيه ان النزوع الفطري للانسان نحو التجمع قد شكل وجدانه وضميره الجمعي بما يفسر ظاهرة' الونسة او الائتناس' والتي ازكي اكتشاف النار من رسوخها, مثلما عكست المصاطب في الدوار والبيت الريفي ذات المفهوم. ويمكن في ذات السياق اعتبار المقاهي مفردا مهما لتلك الظاهرة حتي انه لم يخل عمل ابداعي من تمثلها بل وفاقت شهرة بعضها المتوقع مثل متاتيا واسترا وليمنوس والاقصر وغيرها مما قد اسعفت به الذاكرة مثالا لاحصرا, لارتباطها بتجمعات سياسية وثقافية مثلت علي غرار حرافيش صاحب نوبل جزءا مهما من المشهد السياسي والثقافي والفني انذاك بعدما استحالت الي شهود علي عدة عصور قبل ان تغتالها يد الزمان اما بدعوي التطوير او الاحلال والتجديد. ولم تخرج الكافيتريات عن مفهوم المقاهي الا في اسلوب الخدمة المتوائم مع المدنية لاسيما مسألة تقديم الوجبات الخفيفة بجانب المشروبات مع اختفاء استخدام' الماركات' في تعيين واحصاء الطلبات. ولقد تصور سدنه العهد' المباركي' ان التوسع في فتح الكافيتريات من شأنه احتواء تداعيات مسألة الخصخصة وبيع الاصول المملوكة للشعب وتسريح منسوبيها مقابل حفنة من الجنيهات لينضموا الي طابور العاطلين, وقد بلغ التوسع في ذلك النشاط مبلغا لا يمكن احتماله لاصطدامه بالعديد من الثوابت الاخلاقية في المجتمع بعدما تعدي ظهوره في الحزام السكني الي الوجود حتي في مداخل البنايات بما يمثل انتهاكا للحرمات والخصوصية بكم الالفاظ وأساليب الحوار التي كانت تتطاير مع دخان الشيشة والمشروبات. وهكذا اصبحت معظم تلك الملتقيات بمثابة مرآة تعكس حصيلة المسجدات الاجتماعية النابعة من فقر الفكر السياسي وجموح فساد النخبة الحاكمة بتحولها من التكنوقراط الي الكليبتوقراط. واذا ما تجنبنا' الغرز' فيما دون المقاهي وكذا المطاعم الفاخرة فيما اعلي من' الكافيهات', فان هذه الاخيرة تمثل مرحلة ثالثة من مراحل منتديات التجمع بعد المقاهي و الكافيتريات. ويبدو انها صاحبت مصطلح' المول' الذي استشري في مجتمعاتنا معني ومبني تعبيرا عن مراكز التسوق بل صار صنوا لها, بما يشي ربما بأمركة محتمعية من جانب و شعورا بالتمدين الظاهري من جانب اخر. لاسما وان معظم مرتاديها من الجيل الجديد المتمرد دوما علي واقعه بحكم النزوع الفطري والمتطلع للنموذج الغربي شكلا ومضمونا. بيد أن التساؤل المطروح هو لماذا انسقنا جميعا لقبول هذه الانماط المستحدثة تحديدا بحيث اصبحت لدي البعض ذات دلالات اجتماعية متباينة المشارب, سيما بعدما وضعنا ما دونها خلف ظهرانينا؟؟؟. احسب ان الاجابة عن هذا التساؤل ليست فقط حمالة اوجه بل ربما لم تخطر علي خاطر احد حيث تضرب المواعيد وتساق الانفس لتلك الاماكن اما اعتيادا أو اكتشافا. بيد اننا لو امعنا النظر في الامر لوجدنا ان' الكافيهات' اصبحت بديلا عن ملتقيات البيوت التي فقدت بدورها زخمها الاجتماعي تحت وطأة ضيق المكان' بطابعه السرديني' او الدروس الخصوصية في السباق المحموم لبلوغ جنة الجامعة المنشودة كما أن تغير النفوس قد جعل فتح أبواب البيوتات للاستقبالات الاجتماعية غير محمود العواقب خشية أن يسلق أصحابها بألسنة حداد نقدا ومقارنة أو خشية أن تنعكس سوداوية النفوس علي العيون فيصاب المرء حسدا لا غبطة. وهكذا فقد انصاع الجميع لهذه السطوة غير المرئية حتي أن أخص المناسبات من أعياد ميلاد وخطبة وحفل النجاح وغيرها من مناسبات عائلية صارت تتم في تلك الأماكن ولتنعم سيدة البيت العصرية بالراحة من مقتضيات الضيافة حتي ولو أصبحت تعامل كفرد ضمن المجموعة وليست كصاحبة دعوة تحوم كالفراشة بين ضيوفها وتسعد بنعمة التحلق حولها بل هناك من يذهب لأبعد من ذلك في كون المرأة العصرية قد فقدت الكثير من قدراتها الاجتماعية بعدما تقلص مفهوم سيدة الصالون وعادة الاستقبال التي كانت تميز سيدات الزمن الغابر. وهناك من يخرج بالأمر من دائرته الضيقة ليراه حالة من حالات التعلق بأهداب العولمة الجديدة بحكم انتشار' الكافيهات' ذات السلسلة العالمية في مؤاخاة متأخرة بعض الشيء لسلسلة المطاعم التي لم يبق سوي أن نري أفرع لها من النجوع والكفور لتستكمل منظومة تغيير أنماط حياتنا بتغير عادتنا الغذائية بعدما غلب علي سلوكياتنا في العلاقات مفاهيم' التيك أواي'و'الدليفري'. ولم تسلم رومانسية العصر من هذه المتغيرات بعدما كانت لقاءات الأحبة تحوطها السرية والخصوصية في الأماكن الهادئة فإذا بنا أمام الرومانسية الالكترونية إذا جاز التعبير التي يسبح فيها الطرفان قبل التلاقي في فضاء افتراضي مباح للجميع بدلا من فضاء تخيلي ينسجه الطرفان وحدهما ليصيغا به عالمهما الخاص حتي أن المشاعر الجديدة أصبحت تصاغ بين آليات ومفردات الحاسب الآلي قبل أن تتوج علي أرض الواقع الذي تمثله' الكافيهات' في الوقت الحالي ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن انتشار وتداول مفردات القاموس الشبابي قد ساعد عليه تجمعهم المكثف في هذه المنتديات أو بالأحري' الكافيهات' ومن عجب أن الأندية التي هي في حد ذاتها أماكن تجمع الأجيال متباينة قد غزتها هذه' الكافيهات' مؤسسة بؤر تجمع شديدة الخصوصية والغرابة في الجسم التجمعي الأكبر وهو النادي ذاته. ولا يبقي إلا أن نتساءل من جديد هل هذه المرحلة تمثل محطة نهائية لأنماط المنتديات الاجتماعية أم بداية لمستوي آخر لم نعلم كنهة بعد؟.. كما أن السؤال الذي يحيرني هو هل ربط المصري لاسم النمط الأول لمنتدياته وهو المقهي بمشروب' القهوة' رغم أنه شعب يميل أكثر لشرب الشاي له ارتباط بترجمة الاسم الأجنبي أم له دلالته النفسية في كونه شعب قد يحب شيئا ولكنه يختار شيئا آخر... الله أعلم.!. استاذ الحضارة المصرية القديمة كلية الاداب جامعة الاسكندرية [email protected] رابط دائم :