غبت عن القاهرة أسبوعا لأنني توجهت الي باريس لاستشارة طبية وعدت لأكشف بروز ظواهر إعلامية وفنية بالغة الشذوذ! قلت لنفسي ليس هذا غريبا علي أي حال فإننا نعيش منذ سنوات ولأسباب شتي سياسية واقتصادية وثقافية في مجتمع عشوائي! وهذه العشوائية تتمثل أساسا في انهيار القيم الاجتماعية الأساسية وفي انفلات السلوك الاجتماعي, وبروز ظواهر العنف والبلطجة, بالإضافة الي التقاعس عن العمل والهروب من المسئولية, وسيادة أساليب النصب والفهلوة! عدت لأجد المعركة الكبري بين مرتضي منصور وشوبير والتي دارت رحاها علي شاشة تليفزيون الدولة, بقيادة أو بالأحري بفساد قيادة إعلامي شهير يغدق عليه التليفزيون الملايين كل عام نظير عبقريته الإعلامية الفذة! وهي ملايين لا يحصل علي عشرها أكبر عالم في مصر حتي ولو كان عالما معترفا به عالميا! ولكن المسألة تتعلق بانقلاب المعايير في المجتمع العشوائي بحيث يصبح لاعب الكرة أو الإعلامي الفضائي وهو نوع جديد من الإعلاميين ظهر بعد الثورة الاتصالية الكبري, والمغني حتي لو كان عديم الموهبة, كل هؤلاء يحصلون علي أجور لايحصل عليها أعظم عقول مصر! وقد تتبعت باعتباري باحثا في علم الاجتماع حريصا علي دراسة الظواهر الاجتماعية المختلفة, حتي مايتعلق منها بتوافه الأمور التي تكشف عن أمراض العقل المصري المعاصر, وبعلل المجتمع, والصحف المختلفة لكي أعرف ماهو سر الاهتمام الفظيع بعد هذا الصلح التاريخي بين مرتضي منصور وشوبير. وتساءلت بسذاجة: هل هما مثلا زعيمان لقبيلتين من أكبر القبائل المصرية نشأ بينها صراع دموي قد يؤدي الي فتنة اجتماعية؟ هل هما زعيمان مصريان اختلفا حول مسائل الأمن القومي المصري مما يمثل تهديدا للإجماع السياسي؟ هل كل منهما يتبني نظرية سياسية أو اجتماعية وتحشد حولها الأنصار, وقام الصراع بينهما مما يحتم أن يجهد الإعلامي العبقري نفسه, ويسخر تليفزيون الدولة لكي يحل المشكلة الكبري في حضور الداعية الديني المرموق الشيخ خالد الجندي؟ كلها أسئلة مشروعة لأن الاهتمام الإعلامي بهذا الحدث التافه في إدارية مثيرة للعجب في مجتمع يعج بالمشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تحتاج الي عشرات البرامج التليفزيونية لمناقشتها بواسطة الخبراء في كل مجال. ولذلك كان اتجاها محمودا من قبل مجلس الشوري أن يتصدي لمناقشة هذا الموضوع ويطلب أعضاؤه, بأهمية مساءلة المسئولين أيا كانوا عن هذه المسرحية العبثية. وقد كان وزير الإعلام السيد أنس الفقي موفقا حين قرر أن الرسالة الإعلامية الصحية ينبغي أن تعلو علي أي اعتبارات مادية تتعلق بارتفاع حصيلة الإعلانات! وبالمناسبة أين تذهب حصيلة الإعلانات وكيف توزع بعد خصم نسبة المذيعين العباقرة الذين يطلون علينا كل يوم! اما الحدث الثاني الذي كان من حظي السعيد أن أشاهده بنفسي علي شاشة التليفزيون فهو ظهور نجم غنائي جديد يبشر بثورة فنية في مجال الموسيقي والغناء هو المطرب الجديد أبو الليف. وقد أتيح لي أن أشاهد علي شاشة إحدي الفضائيات العربية لقاء مثمرا بين مقدمي أحد البرامج وأبو الليف شخصيا وكاتب الأغاني المعروف والملحن المعروف أيضا! وأصارح القاريء قبل أن أصدر أي حكم تقييمي علي أغاني أبو الليف المثيرة أنني تعاطفت معه بشدة, حين عرفت أنه خريج الكونسر فتوار, ولم يجد عملا في مجاله, ولذلك اضطر الي أن يشتغل عاملا في مطعم ثم سائق تاكسي لمدة عشرين عاما قبل أن يتم اكتشافه. البرنامج كان مثيرا للغاية, لأن أبو الليف نفسه شكله بشعره الكثيف ملفت للنظر هذا اولا. ثانيا أعجبني مؤلف الأغاني وهو يقدم نظريته الثورية في الفن الجديد مقررا أنه زهق من أغاني الحب والغرام وقرر أن يكتب أغاني جديدة قريبة من فن المونولوج لمناقشة الأوضاع الاجتماعية السلبية. كان الرجل يتحدث بمنتهي الوقار والرصانة وكأنه فعلا صاحب كشف فني جديد! أما الملحن المعروف فقد أثني علي أقوال كاتب الأغاني وقرر أنه اكتشف منجما في صوت أبو الليف. والحق أن أبو الليف صوته جميل وحين سمعته يغني أغنيته الشهيرة التي ستفتح آفاقا عديدة للفن الموسيقي والغنائي العربي إن شاء الله أشفقت عليه أن تضيع موهبته في أغنية تافهة ليس لها أي معني! تقول الأغنية الخالدة وأعتذر للقاريء عن الركاكة والسخافة والتفاهة أنا مش خرونج, أنا كنج كونج, أنا إيدي مربوطة وبلعب بنج بونج! وأصارح القاريء بأنني لم أتعود أن استخدم في النقد الاجتماعي الذي أمارسه الفاظا غليظة غير أنني بعد موقعة مرتضي وشوبير الكبري وبعد استماعي لأغنية الخرونج والكنج كونج أدركت أن المجتمع المصري العشوائي قد وصل الي منتهاه, وأن الألفاظ المؤدبة لاتصلح في الواقع لوصف مختلف ظواهر الفساد والقبح وقلة الذوق وقلة القيمة! ماهو المصير؟ وأقصد بذلك بكل وضوح ماهو مصير مجتمعنا إذا ما استشرت هذه الظواهر المؤسفة,وتخللت كل جوانب حياتنا؟ الإعلام الذي تكمن رسالته أساسا في رفع الوعي الاجتماعي للمواطنين أصبح أداة لتغييب وعي الجماهير وملعبا لعدد من الإعلاميين الأدعياء الذين نصبوا أنفسهم مصلحين اجتماعيين وزعماء سياسيين ثوريين وقضاة يحكمون علي الناس ووكلاء نيابة يتهمون البشر بغير دليل في غيبة مواثيق شرف إعلامية ونظام رادع يكفل عقاب المتلاعبين بالعقول! وفنانين يجرون وراء مراكمة المال الحرام حتي ولو كان ذلك علي حساب إفساد الذوق العام, وتشويه التاريخ الغنائي والمسويقي المصري الزاخر بالإبداعات التي أثرت وجدان الجماهير طوال العقود الماضية. نحن في حاجة ليس الي إصلاح سياسي جذري فقط, لكن قبل ذلك الي ثورة ثقافية لتصحيح الظواهر السلبية الفاسدة, وإرساء أسس النهضة.