ليست المدنية الإسلامية إلا اخترالا لموجات المد التاريخي في أرقي مستوياتها, فما قدمته هذه المدنية تعذر علي الأشواط الحضارية أن تبلغه بل أنها سجلت عجزها حيال تلك المدنية حين عصفت بالضمير الأخلاقي ونبذت طوفان القيم الإيجابية وقدمت أنماط المدنية المنقوصة العاجزة عن إلتقاط بؤر الإشعاع في التراث الروحي الشرقي فجاءت طامسة للمحور الانساني مطيحة بغاياته المثلي فما انتهت إليه المدنية الإسلامية لن تطوله الحضارة الغربية المعاصرة إلا إذا لملمت شتاتها وإستوقفتها نواقصها وصارت نوازعها هي نوازع موجهة نحو بعث جديد للأعماق الساكنة التي أتقنت التيارات المادية تخريبها وإبادتها إلي مدي غير متصور. ولقد ظلت تلك القضية لآماد طوال محل تفسير وتحليل وبحث واستقصاء ومقارنة حتي كانت البصمة الكبري فيها خلال أطروحة د. عبدالرازق السنهوري المدنية الاسلامية والتي اتسمت بأقصي درجات الموضوعية والشرف العلمي وقدمت أنموذجا رادعا لأدعياء الاستشراف وبغاة التطاول الأجوف علي الاسلام ورموزه وتراثه وتاريخه, وقد انبري د. محمد عمارة لهذه الأطروحة بمقدمة قوية فكرا وأسلوبا ومدعومة بحشد من الأدلة والأسانيد لذلك العمق الحضاري للمدنية الإسلامية السباقة دائما في انطلاقها التاريخي كأنموذج أمثل للحياة الإنسانية في كل أطوارها. ولقد اعتمد البناء الفكري للسنهوري علي مجموعة من المفاهيم القويمة التي تؤسس لدراسة منهجية حين أقر أن المدنية الإسلامية هي في المقام الأول مدنية مؤسسة علي الشريعة الإسلامية لاتقف عند الجانب العقدي في الإسلام الخاص بالمسلمين حتي تكون خاصة بالمسلمين دون سواهم, وإنما هي رباط جامع وإنجاز مشترك وميراث حلال لكل شعوب الشرق وأممه علي اختلاف دياناتهم, من ثم فهي خيارهم المنشود نحو التقدم, أو هي مدنية الشرق بأممه وأديانه لامدنية المسلمين وحدهم لأنها هي الجانب الثقافي والقانوني من الإسلام الوثيق الصلة بالشرق وبإبداع كل أممه وملله ودياناته, بينما الجانب العقدي والشعائري من الإسلام خاص بالمسلمين وحدهم, كما أن هذا الجانب العقدي من الديانات الأخري خاص بالطوائف الشرقية التي تدين بهذه الديانات حتي بات مصطلح الأمة الإسلامية شاملا لكل الشرقيين فهم علي إختلاف مللهم الدينية مسلمون في الثقافة الاسلامية التي وحدتهم بهذه الرؤية الواضحة العميقة والمنطقية. ولقد تبني السنهوري في إفاضة غير مسبوقة موجة من النقد اللاذع لتيار التقليد للمدنية الغربية الذي أراد أهله إحلال هذه المدنية محل المدنية الإسلامية في نهضتنا الحديثة رافضا لهذا الخيار الغربي في المدنية داعيا إلي بعث مدنيتنا الإسلامية خيارا حضاريا نهضويا قائلا ما نصه: إن الأممالشرقية أمامها أمران لامحيص عنهما فهي, إما أن تجري مع المدنية الغربية وهذا طريق ليس مأمونا واما أن تختط لنفسها مدنية تصل فيها الماضي بالحاضر مع التحوير الذي يقتضيه الزمن وتحفظ لنفسها شخصيتها وهي تستطيع بذلك أن تسابق الغرب بدلا من أن تجري وراءه, وعلي ذلك فإحياء المدنية الإسلامية يعتمد في قوامه علي التركيز علي الشريعة الإسلامية واللغة العربية وهو سبيل الأمة إلي النهضة بدلا من التسول علي موائد المدنيات الغربية الذي لايتسق بحال مع قومية وتاريخ مدنية عريقة. ويضفي السنهوري علي هذه المدنية الجديدة طابعين أساسيين هما: أن تكون ذات صبغة شرقية تصل الماضي بالمستقبل وأن تكون كذلك هي رد الفعل الحاسم للمادية المتغلبة علي المدنية الغربية التي أصبح ضحاياها أضعاف أضعاف المتنعمين بها, ولاشك أن العالم المعاصر ينتظر من الشرق أن يقيله من تلك العثرات إذ أنه كان مبعث الخير والنور ومهبط الحكمة والأديان. ويشهر السنهوري أدواته في وجه دعاة التقليد مؤكدا حقيقة ثابته لامحيد عنها وهي أن طريق التقليد لايقود إلا إلي تقليد السلبيات لأن تقليد الرذائل أسهل وأيسر من تقليد الفضائل والايجابيات مستشهدا بمقولة شهيرة لعبد الرحمن ابن خلدون مؤداها( أن الأمم الضعيفة مولعة دائما بتقليد الأمم القوية التي تحتك بها). ولايعد ذلك دعوة صريحة أو خفية نحو القطيعة المعرفية التي تحدث عنها باشلار أو إلي العزلة الحضارية التي لم تعتد عليها الأمة الإسلامية طيلة تاريخها, وإنما هي دعوة واضحة جلية إلي التمييز الصادق بين خصوصيتنا في المدنية الإسلامية وعلومها الإنسانية والاجتماعية وقيمها ومثلها وأخلاقياتها وبين العلوم المادية التي أنجزها الغرب والممثلة للمشترك الإنساني العام الذي لا وطن له. ولعل الاستراتيجية الفكرية التي يخلص إليها السنهوري من كل ذلك هي أن الفريق الذي يتمسك بالماضي الإسلامي تمسكا أعمي منبت الصلة بالعصر فهو يجلب بذلك عداوة مطلقة مع العالم المتمدين ويضحي في ذات الآن بتلك الأقليات الدينية النشيطة في الشرق الأدني والتي تلجأ إلي أوروبا طمعا في حمايتها وبدلا من أن تشد من أزرنا بجهودها معنا تتقلب علينا وتصبح شرا ينخر في كيان الأمة, وهناك فريق آخر يحاول دائما أن يقطع حبل الماضي أملا في إقحام المدنية الأوروبية دون مراعاة عادات الشرق وتاريخه ومزاجه العام. ومن هذه وتلك قدم السنهوري رؤية تنويرية إسلامية منذ بدايات القرن الماضي لكن ما أحوج أمتنا الاسلامية إليها في القرن الحاضر. وهو مايعني أن الطبيعة الحياتية لعالمنا الإسلامي لم تتغير في كثير أو قليل وبالضرورة هو مايجذب أنظارنا وبصائرنا إلي أن صيحات التنوير الإسلامي ربما قد ذهبت أدراج الريح لأنه لا أثر للمدنية الإسلامية علي شخصيتنا وأحوالنا ووعينا وثقافتنا وإن كانت هناك إنعاكسات باهتة للمدنية الغربية, فكيف استبدل عالمنا العربي والإسلامي الذي هو أدني بالذي هو خير؟!