في سياق السؤال الرابع لمعضلة التعريف عند السنهوري والمنصب علي ما هو الاساس المعرفي لمنطق السنهوري من حيث تأسيس كيفية الارتباط بالاخر ايديولوجيا وسياسيا، وجدنا وفق ما سبق عرضه في المقالات السابقة السنهوري اعتبر مصدر الاجماع وتوارثه هو اساسه المتين للاجتماع والقانون الاسلامي. والسنهوري هنا يخالف الفقه السني السلفي الذي يري ان الكتاب والسنة في معناهما الحرفي هما اساس الحكم والاجتماع الاسلامي ويخالف ايضا الفقه الازهري في تصوراته العقلانية والتي شرحها الشيخ علي عبد الرزاق في كتابة النادر : " الاجماع في الشريعة الاسلامية"، والكتاب الذي ضم مجموعة من المحاضرات القيت علي دبلوم الشريعة الاسلامية بجامعة فؤاد الاول 1947 . ونحن هنا لن ندخل بالتفصيل في المقارنة بين الثلاث فرق في فهم الاجماع كمصدر من مصادر التشريع الاسلامي فهذا سنفرد له جزءا الثاني عند الحديث عن "معضلة الميراث المعرفي" عند السنهوري. السؤال الهام في سياقنا هذا هو لماذا لجاء السنهوري الي تأسيس القانون علي فكرة الاجماع الفقهي من حيث المبدأ والاساس دون غيره من الاسس في الشريعة الاسلامية او غيرها من مصادر تاريخية كالقانون الروماني علي سبيل المثال؟ الاغلب الاعم في ظني هو تأثر السنهوري الحاسم بتقاليد وفقه القانون الانجليزي ، حيث تلقي تعليمه القانوني الاول في مدرسة الحقوق الانجليزية قبل انشاء الجامعة الاهلية المصرية، من حيث اعطاء اولوية لمنطق التطور والاعتياد والاعتماد علي سوابق الاحكام والتي تشكل مبني الفكر والقاعدة القانونية والاعتماد الاساسي علي فنيات الاحتجاج المنطقي في بناء المقولة القانونية، وليس الاعتماد علي مختلف التفسيرات لنص المادة القانونية الصادرة من المشرع العام. وسنرجئ كيف وفق السنهوري بين تقاليد القانون الانجليزي الذي يعرف "بالقانون -المدني - العام" وتقاليد القانون الفرنسي الذي يعتمد علي رؤية المشرع الوطني والذي يعرف باسم "كود القانون المدني" من حيث فنيات التوفيق ومدي نجاحه في بناء هيكل منطقي قانوني متماسك، ومدي نجاحه في تمرير رسالته الاسلامية القومية من خلال هذا التوفيق الي الجزء الثالث من الدراسة والمعنون "بمعضلة المدني" عند السنهوري. ولكن دعنا هنا نتعرف علي مصدر فكري كبير داخل الفقه القانوني الانجليزي وكان له تأثير حاسم علي السنهوري الا وهو المفكر والفليسوف دفيد هيوم. انجذب السنهوري لمنطق هيوم مدفوعا بأربعة دوافع كبري: اولها، ميلة للاعتدال المعرفي بمعني ان موقفة الشاك من قدرة العقل علي اصدار احكام نهائية لم يحل بينه وبين تأسيس احكامة علي التجربة التاريخية والخبرة النفسية -الايديولوجية، ثانيها، كون هيوم الاسكتلندي المنشأ في صراع مماثل كالذي وجد السنهوري نفسه فيه من حيث الصراع بين الفرد من جهة والدولة الجماعة من جهة اخري، فهيوم الذي كان قوميا اسكتلديا محافظا ومعتدلا مثل السنهوري اشرأبت اعناقهما كل الي نهضة قومية لقومه، والنهضة القومية تحتاج الي حكومة قوية، ثالثا، كان صراع هيوم والسنهوري يتمحور حول كيف نجد عدالة علي اساس غير القانون الروماني ، فالقانون الروماني اسس علي مبادئ القانون الطبيعي الذي انحدرت منه افكار افلاطون وأرسطو وبشر بها الرواقيون وصيغت وفق ذالك كمذهب لتنظيم العلاقات الاجتماعية والقانونية في الفكر القانوني الروماني، رابعا، رغم ايمان هيوم والسنهوري بالوضعية القانونية كمدخل لتفكيرهما القانوني الا انهما حاولا اعادة تأسيس التاريخ الفكري لبلادهما، بدلا من القانون الروماني، كتراث قانوني. ونلاحظ التماثل الفكري والمعرفي بين هيوم والسنهوري في التالي: اولا، الايمان بأن المجتمع الانساني يؤسس علي روابط متينة من المشاعر والميول والتعاطف، وهو ما فهمه السنهوري باعتباره يعادل موضوعيا الاجماع في الفقه الاسلامي، ثانيا، فهم القانون باعتباره ابتكارا بشريا وليس منطقا طبيعيا، بعبارة أخري، عندهما فإن قواعد العدالة دائما مكتسبة وبها اصطناع ولا يجب ان تقوم علي التعسف، ولكن علي الاتزان، الذي يخلقه الاجتماع بين الناس علي الاشياء المشتركة بينهم، واللازمة لاستقرار حياتهم، في هذا السياق فهم السنهوري منطق العدالة في العقود ومعني الضرورة الاجتماعية، ثالثا، التمسك بما في الطبيعة البشرية من اتساق كامن في وقائع التاريخ، وهذا فهم محافظ للتاريخ حيث يعلي من منطق الاستمرارية علي منطق التغير والتبدل ، الامر الذي يقترح ان بعض الجوانب الثورية عند السنهوري كانت بقصد الوصول الي وضع مستمر ودائم، وليس إلي وضع متغير يستجيب لتبدل الاحوال، رابعا، الايمان بأن هناك مبادئ عامة تظهر في ثبات الملكية وقانون انتقالها بالرضا والوفاء بالوعود والايمان بان اتباع هذه القوانين بشكل دقيق يحقق السلام ويوفر الامن ، الامر الذي يستدعي من هذة القوانين ضروره ان تتواءم مع مشاعر الناس وعواطفهم، خامسا، الايمان بأن العناية الالهية تستهدف الخير العام، وان هذا الخير العام يتمثل في فعل الحكومة، وليس في اعتبار الحاكم له حق الهي، الامر الذي يقول لنا ان هيوم والسنهوري لا يؤمنان بمنطق العقد الاجتماعي في الاساس، ولكن يؤمنان بان الانسان يدفع للاجتماع الانساني بالرغبة لاستكمال حاجاته الانسانيه، وان وجوده وحيدا هو موت وفناء له، الامر الذي يؤدي الي ضروره خلق قانون مدني . هذا الفهم فهم محافظ لانه يقوم علي اعتبار ان المجتمع يقيد الافراد في سلوكهم، ولابد بالتالي من وجود قواعد موضوعية لفض المنازعات بين الافراد، وان هذه القواعد هي ملزمة بسبب قدرة الحكومة علي الالزام، وان الحكومة تجد قدرتها علي الالزام من توافر المشروعية العاطفية بين الافراد تجاه الحكومه. ويستمر التحليل.