نعلم ان السنهوري في تصوره عن المستقبل والذي عمل علي تحقيقه وتجسيده ، في حقيقة الامر، كان تصورا قوميا اسلاميا . في مطلع القرن العشرين كان يوجد نموذجان معرفيان يتصارعان حول مضمون معني ان يكون المصري السني قوميا واسلاميا آن الوقت : اولاهما، نموذج الهوية الوطنية، كما ظهر عند جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الله النديم وعبد الرحمن الكواكبي وتبعهم سعد زغلول ، وثانيهما، نموذج الهوية الوهابية السلفية، ونعلم ان اول من استخدم اسم الوهابية مقرونا بمحمد عبد الوهاب هو اخوه المسمي بسليمان عبد الوهاب في كتاب شهير تحت اسم : "الصواعق الالهية في الرد علي الوهابية" والذي حرره في السنوات 1750-1753 وصدر لاول مرة ككتاب في 1888 - 1889 وقد استعمل الوهابيون أنفسم هذا المسمي عندما اصدر احد كبارعلمائهم سليمان بن سمحان في 1924 مجموعة مختارة من رسائل ابن عبد الوهاب تحت عنوان: " الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية". اتقسمت المرجعية المعرفية للسنهوري بين الاتجاهين ، وان كانت في الاول مالت سياسيا للتوسط بين الكواكبي وسعد زغلول، ولكن نما السنهوري كسلفي - ثقافيا - مع الايمان بجاويش ومحمد فريد وجدي من ناحية ، ومع نمو القوي السلفية في مصر تحت تأثير محمد رشيد رضا وميله الي الجانب الوهابي، باعتبارهم كما رأي واعتقد مجددين في الاسلام، وظهر في كتابه "الوهابيين في الحجاز" ، ومع تأسيس جماعة السنة المحمدية للشيخ محمد حامد الفقي 1925 الذي انتصر بشكل واضح للخط الوهابي ، وتأسيس جماعة العاملين بالكتاب والسنة بقيادة الشيخ السبكي في 1926 والذي لم يكن وهابيا قحا ، ولكن شافعيا يميل الي المنطق السلفي ، واخيرا تأسيس جماعة الاخوان المسلمين في 1929 والتي زعمت واعلنت لنفسها هوية فكرية كطريقة سلفية ، في هذا العام اصدر السنهوري كتابه "اصول الحكم في الاسلام" الذي تمسك فيه بمقولات محافظة اسلامية كاطار معرفي للحكم والسلطة في البلاد ردا علي الشيخ علي عبد الرازق. بعد وفاة سعد زغلول توغلت الروح السلفية في نفس السنهوري سواء اخذت صورة القومية العربية غير العلمانية او الصورة الاخوانية للفهم القانوني كما ظهر في حوار المستشار حسن الهضيبي، المستشار في محكمة الاستئناف انذاك، والمرشد الثاني للاخوان بعد 1948 مع السنهوري امام اللجنة البرلمانية التي اقرت مشروع القانون المدني الجديد 1948 من ناحية اخري. ننهي هذا الجزء الاول من السلسلة ببيان معالم معضلة التعريف عند السنهوري. حددنا من قبل المعضلة المعرفية بانها التي تنبع من القلق المعرفي من القصور الموضوعي من الوصول الي الحل الامثل او المناسب للقضية او المسألة المعروضة. والمعضلة لا تنبع من عدم توافر المعلومات، او غياب الارادة، او عدم ضعف التصورات، ولكن تنبع المعضلة المنطقية من الحيره المعرفية. وحل هذه الحيرة المعرفية لا يتأتي الا بتوافر خلفية أيدلوجية تعيد تصوير هذه الحيرة باعتبارها فكرا مصاغا في مقولات يعبر عن يقين يأخذ شكل القانون العام. المنهج المطبق في تحليلنا يخلع هذا البعد الايدلوجي عن المعضله، وينصرف كليا الي التعامل مع عناصر المعضلة المعرفية باعتبارها حلولا واقعية قصيرة النظر تعبر عنصر الاجبار ولا تضمن عنصر الرضا بالوصول الي ارضية مشتركة بين احتمالات متنازعة. فمناخ الثقافة السياسية بعد 1935 كان يشجع علي جعل السياسة عنصرا من عناصر الاجبار السلطوي، وليس ميكانزم من ميكانزمات الرضا العام. وبتضاؤل مفهوم الرضا العام كاساس للحقوق المدنية في الثقافة السياسية المصرية تم الدفع بمفهوم التخاصم كاساس وحيد لتسوية الصراع بين الحقوق المدنية. التخاصم هو التجادل، والتجادل هو التغالب والصراع والتناحر، فنحن نعلم لغويا ان اساس معني الجدل هو التخاصم، فيقال جدل شخص آخر اي احكم قتله او صرعه . فهم السنهوري الخصومة المدنية ليس باعتبارها تسوية للحقوق بين الافراد بصرف النظر عن المعتقدات الدينية او الثقافية، ولكن باعتبارها تسوية في اطار اجماع فقهي اسلامي موروث. الامر الذي فتح الباب للاجبار الثقافي ، وخاصة في ضوء اعتبار مبادئ الشريعة الاسلامية مصدرا من مصادر القانون المدني الجديد في 1948 . التخاصم هو التجاذب السلبي حيث يقوم علي علاقة تضادية ، فيوجد طرفان يسعي كل طرف الي الظهور بمظهر الاقوي بامتلاك مظاهر الحق المدني، بصرف النظر عن الحقيقة ، اي الصراع علي السيادة علي الشئ المادي الذي من صوره وضع اليد،الامر الذي يجعل من القانون وفلسفته ليس منهجا لبناء التوافق العام بين الافراد ، ولكن منهج لحسم الصراعات. فالقانون بشكل عام والمدني بالخصوص بهذا التعريف يتحول ليصير قانونا للاقوياء والاغنياء القادرين ومعتمدا علي غوغائية الاكثرية والاجماع الثقافي المصنوع والمغزول اعلاميا. فكل طرف في الخصومة يقدم نفسه باعتباره مالكا للحقيقة وغير قابل من حيث المبدأ بالتوافق. ربما لهذا نجد تطويلا لعملية التخاصم القضائي بقصد استنزاف الخصم الضعيف اجتماعيا وارهاقه ماليا ، فان لم يخسر، فيقبل علي الاقل، من غير رضا، بتقسيم الحق المتنازع عليه مع الخصم الاقوي اجتماعيا. في هذا السياق تأتي السلطة ، ايا كانت صقتها ، باعتبارها محددة لمجال وموضوعات الصراع حول الحق المدني ، بهذا ينزع اقرار تسوية الحق من مجال الافراد وتوافقهم ، وينتقل عمليا وواقعيا الي مجال الحسم من خلال تدخل السلطة ومقضياتها. فينساق الفرد الي التخاصم مدفوعا بالاعتقاد بان هذا هو اساس الوجود المدني، وما هو كذلك . الامر الذي يمنح عناصر السلطة المعنية قوة ثقافية عليا في تسبيب الاحكام وتبريرها علي اساس ثقافي تخاصمي ، وليس علي اساس كيفية الوصول إلي تراض جوهري بين الخصمين. في نهاية هذا الجزء برتاح قليلا من العمل علي السنهوري حتي نفسح المجال لموضوعات اخري.