الحمد لله.. اللهم ديمها نعمة واحفظها من الزوال يارب.. قالها وهو ينهض, ثم اتجاه إلي الصنبور المستقر بالطرقة الصغيرة أمام المطبخ لغسل يديه.. أما هي فقد قامت تلملم ما تبقي من كسرات الخبز, وبقايا الطعام المكون من أصابع البطاطس, وقطع الباذنجان المالية, وأعواد الجرجير الطازجة, ثم قامت بوضعها في الثلاجة البيضاء ذات المقبض المعدني. سبقها إلي الشرفة الصغيرة المطلة علي الحارة, وتبعته بعد قليل بصينية الشاي الساخن بالنعناع, جلست أمامه وهي شاردة الذهن قليلا وناولته الكوب, أخذت بضع رشفات من كوبها وكانت تنظر إليها قبل كل رشفة وكأنها تهم بقول شيء ما, ثم ما تلبث كلماتها أن تذوب مع رشفاتها.. أما هو فقد كان ناظرا في ال لا شيء هانئا بقليل من لحظات الصفاء. الدنيا حر اليومين دول يا أم محمد.. مفيش غني عني عن قعدة البلكونة دي.. شوية هوا حلوين.. الحمد لله علي كرمه. الحمد لله يا حاج.. ربنا بيدبر الأمور.. عاد كل منهما إلي كوبه, واستمرت علي حالتها من النظر إليه, ثم ابتلاع الكلمات مع رشفات الشاي المتعاقبة, حتي انتهي هو من كوبه فانتهي صبرها معه, نظرت إليه بضع لحظات, ثم استجمعت نفسها قائلة بتردد: عاوزين ننجد يا حاج.. تبخر مع كلماتها الأربع ما كان يستمتع به من استرخاء وصفاء ذهني ونفسي, حول نظره بسرعة إليها وعلي وجهه مزيج من إمارات الدهشة والاستفهام, ارتبكت قليلا ثم تمالكت نفسها ثانية وقالت بإصرار: الصالون اتبهدل أوي يا أبو محمد.. الفرش داب ولونه أجرب.. وبقي منظره يكسف.. وبصراحة ابنك بيتحرج لو حد من زمايله في المعهد زاره.. آه.. الجدع متكلمش أنت عارفه قنوع ومهتدي.. بس أنا باحس بيه يا ضنايا.. والأهم من كده البت الكبيرة تمت18 سنة.. قدر جالها عدلها.. مش واجب برضك نتستر قدام العريس.. ولا إيه يا حاج؟ أسقط في يده, ولم يملك أمام قوة حجتها سوي الصمت, وقلة الحيلة, استمر علي صمته وإن تبدلت تعبيرات وجهه إلي الاستسلام والانكسار والحيرة في آن واحد, وظلت هي تنظر إليه بلهفة منتظرة الجواب: طب ما هو علي يدك.. أنا مش مخللي في جهدي جهد.. الصبح في الوظيفة.. وبالليل بياع في دكانة الحاج حسين.. وإللي جاي علي قد إللي رايح. تعاطفت معه, وشعرت بغصة في الحلق لتسببها في زيادة همومه, أو تذكيره بها, وحاولت التهدئة من روعه قليلا. طب متتكدرش يا أبو محمد ومتشيلش في نفسك. متكدرش إزاي بس وانت بتقولي الواد والبت زعلانين.. بس أنجد منين بس.. شوية شوية حتقوليلي نبيض. كادت تضعف إلا أن تحقيق هدفها كان أكثر إلحاحا.. وماله يا حاج.. إن شاء الله نبيض وكل حاجة.. ربنا قادر كريم.. ونعم بالله.. فرجه قريب.. بس أنا أعمل إيه؟ طب مينفعش تطلب سلفة من المصلحة؟ أو من الحاج حسين؟ وتقسطها من ماهيتك؟ مانا مخللي ده للشديد الأوي.. يعني حاجوزهم وأجهزهم منين؟ تنظر إلي الأسورة الذهب عيار18 الوحيدة في يدها.. ده لا يمكن يحصل يا أم محمد.. دي الغويشة اليتيمة إللي حيلتك. وماله يا أبو محمد؟ أنا مش عاوزة دهب ولا سيغة.. المهم العيال. طب حتي خليها للزمن.. قدري جرالي حاجة. متقولش كده يا حاج.. حسك في الدنيا. يسود صمت مهيب, يشعر بسخونة تتصاعد إلي رأسه, يصطدم بصره بجدار المنزل المقابل الذي لا يفصله عنه سوي بضعة أمتار.. ويشعر فجأة بأنه قد أصبح حاجبا للهواء. تنظر له في حالة من الترقب بينما يدور بداخلها صراع قوي بين تأنيب ضميرها, وإصرارها علي بلوغ الهدف. طب نعمل جمعية يا حاج؟ ربنا يدبرها من عنده.. فرجه قريب.. هه, أقوم أنا بأه ألحق وردية الدكان. يخرج إلي عمله شاردا, يجر قدميه شاعرا بثقل أكثر من المعتاد, وتعود إلي عمالها المنزلية قلقة حزينة وغارقة في أمنياتها.. ربنا معاك يا أبو محمد.. ويفتحها في وشك.. ويرزقك برزقنا من حيث لا تدري..قادرر كريم يارب. مي حمدي