إن نظرية دين ودولة وظفها الانقلاب الأموي ليكتسب الشرعية المنتزعة بالمال والخديعة والاغتيال اعتبر الانقلابيون الدين ملكا للسلطة وأنصارها, هم عصبيتها كما يسميها ابن خلدون,هم حزب الدولة الأموية أو العباسية أما المعتزلة,أو الخوارج, أو الشيعة فكانوا المعارضة التي تعالج بالسيف ولكنها سياسية فلا مانع من حدوث تحالفات مرحلية ضد عدو مشترك, مثلما حدث بين العباسيين والعلويين ضد الأمويين, حتي إذا ماوصل العباسيون للسلطة انقلبوا علي العلويين فأبادوهم, وكان في مقدور الحزب الشيعي أن يصل للسلطة أحيانا كما حدث في مصر أيام الفاطميين. السطور السابقة من كتاب الأستاذ فاروق القاضي العلمانية هي الحل الصادر أخيرا عن دار العين, والذي أتوقع أن يثير معارك سياسية وفكرية تليق بكاتبه وبالقضايا التي قرر أن يتناولها, خصوصا وأنه اختار منذ اللحظة الأولي أن يكون صادما في مواجهة التيارات التي اتخذت من العبارة الشعبوية المضللة الاسلام هو الحل بشعار جذري أخر: العلمانية هي الحل. والمؤلف الأستاذ فاروق القاضي الذي ولد عام1928, شارك في نضال الحركة الطلابية في ذروة مجدها أثناء انتفاضة1946 طالبا في جامعة فؤاد الأول, وبدأ وفديا ثم انتقل الي صفوف الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني وعلي مدي مايقرب من عقدين من الزمان عمل صحفيا في روز اليوسف والمساء والشعب والجمهورية, وكان أحد نجوم الصحافة الكبار واشتهر بتغطيته لأحداث الكونغو عام1960, ومباحثات الوحدة في دمشق عام1958, وكان أول صحفي مصري يجري مقابلة صحفية مع الرئيس اليوغسلافي تيتو عام1953, ومع السوفيتي خروشوف عام1956 وبعد هزيمة1967 اختار القاضي الانضمام لحركة فتح حيث عمل في جهاز الإعلام, وكان عضوا مراقبا في المجلس الثوري في فتح ومستشارا لياسر عرفات,ثم اختار المحارب القديم الذي تواصل عمله النضالي والسياسي والإعلامي مايزيد علي خمسين عاما أن يعتزل العمل السياسي عام1984 ليتفرغ للكتابة, حيث أصدر بالفعل مجلدين كبيرين الأول فرسان الامل عام2002, ثم آفاق التمرد عام2004, وأخيراالعلمانية هي الحل حاولت في السطور السابقة أن أقدم الخطوط العريضة لسيرة هذا المفكر الكبير الذي أمضي حياته في النضال العملي في مصر ثوريا في صفوف الحركة الطلابية سواء في الوفد أو حدتو, ثم آمن بثورة23 يوليو وعمل لأكثر من عقدين في صحافتها, وامتد إيمانه الي الثورة الفلسطينية بعد الهزيمة فقد كانت الضوء الوحيد الذي لاح في الأفق في تلك الأيام الكئيبة التي أعقبت أسوأ هزيمة واجهتنا في العصر الحديث. لكن المحارب القديم لايركن للهدوء في عزلته الاختيارية, بل بدأ معركة كبري ضد القائلين بالدولة الدينية ومثيري اللغو بعبارتهم الشهيرة الإسلام هو الحل وقدم صرحا فكريا من خلال التدقيق والتمحيص في الأصول وسراديب كتب التراث, ربما كان أقرب وصف لهذا الصرح الفكري أنه جدارية كبري للدين والسياسة والعلمانية والشريعة والاجتهاد. لايخفي المؤلف منذ السطور الأولي أنه يوجه سهام نقده لجهات وتيارات عديدة مسئولة عن هذا الوضع الذي رزئنا به, وفي مقدمة هذه التيارات والجهات جماعة الإخوان المسلمين,لكنه يتوقف أمام اجتهادات المهندس أبو العلا ماضي وتجربة حزب الوسط وإذا كان المؤلف يناقش أفكار المعاصرين مثل أبو الفتوح وأبو العلا ماضي وطارق البشري ومحمد عمارة وغيرهم, فإنه يناقش أيضا الوقائع التاريخية الدالة منذ أسس النبي( ص) دولة المدينة فبيعة الصديق في السقيفة علي سبيل المثال وماجري فيها, ثم تعيين أبي بكر لعمر بن الخطاب,بينما كلف عمر ستة ليختاروا من بينهم خليفة يؤكد أن الإسلام خلو من أي دولة ولو كان فيه لالتزم به صحابة النبي( ص) ومن بين الوقائع التاريخية الدالة أيضا تحول الدعوة المحمدية لإتمام مكارم الأخلاق الي ملك عضوض تربع علي قمته من حاربوا الدعوة وساموا النبي الكريم سوء العذاب وهم الأمويون بقيادة معاوية بعد قتل الخليفة عثمان قال معاوية:والله لأستميلن بالمال ثقات علي ولأقسمن فيهم المال حتي تغلب دنياي آخرته هي محض سياسة اذن ولاعلاقة لها بالدين وبعد أن تولي يزيد بن معاوية أطلق قائد جيشه علي مدينة النبي فاستباحها ثلاثة أيام في معركة الحرة أما عبد الملك بن مروان فأرسي الطغيان كقاعدة للحكم في خطاب ألقاه في مسجد النبي قائلا: ألا والله إني لا اداري أمر هذه الأمة بالسيف..والله لايأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. لذلك فإن فصل الدين عن الدولة ليس فقط تنزيها للدين وإعلاء لشأنه,بل لأيضا المهمة الأولي والأساسية لهذا الصرح الفكري الذي شيده المؤلف, دفاعا عن الدين من ناحية, وعن الدولة المدنية من ناحية أخري,أما كيف توصل كاتبنا الي هذا فهو موضوع المقال التالي, والكلام متصل.