[هل نحرق الملكة؟] طالعني السؤال صادما, ملصقا علي جدار مباني الجامعة, هل نحرق الملكة؟ تبينت أنها دعوة لمناظرة حول مستقبل الملكية في بريطانيا. تعجبت, ففي بلدي يعتبر مثل هذا السؤال عيبا بل خطرا, وقد يطولك اتهام بجريمة مالو فكرت في طرح السؤال. دفعني الفضول لأحضر المناظرة الطلابية, هذا يدافع عن الملكية, فيقول انها تراث الأمة, والملكة هي رمز العراقة والارستقراطية للامبراطورية بينما يري أحدهم أن المخصصات والمصروفات الملكية تشكل عبئا علي اقتصاد بريطانيا لامبرر له, ويدعم رأيه بالاحصاءات والأرقام ويرد عليه أحدهم بل تنعش الاقتصاد السياحي حيث يأتي الناس من كل الدنيا ليعيشوا أجواء العظمة والأبهة ويشاهدوا مجوهرات التاج وتغيير الحرس الملكي أمام قصر باكنجهام. ويهاجم أحد الطلاب الملكية كفكرة ويسأل الحاضرين: كيف تتقبلون أن يولد شخص ليرثكم جميعا, كل وظيفته أن يحمل لقبا ويأكل ويشرب من عرق الناس دون أن يعمل, ثم يأمركم فتطيعوا؟ ويدافع أحدهم عن الملكة من منظور سياسي فهي صمام للأمان تفصل بين الأحزاب وتحسم كل صراع سياسي,وهي الرمز الذي يحترمه الجميع ويهابونه. ويري أحدهم رأيا هزليا, فهو يرفض تماما حرق الملكة, ويري توفيقا لجميع وجهات النظر الاكتفاء بطردها من البلاد, خاصة وأن حرقها يتطلب كمية كبيرة من البترول بينما سعره في ازدياد!! تابعت المناظرة, مع هولاء مذعورا, حيث عرض كل فريق حججه وأسانيده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية, وانتهي الاجتماع بأخذ أصوات الحاضرين: هل توافقون علي إحراق الملكة!! وأيا كانت النتيجة فإن اللافت للنظر أن مباحث أمن الدولة البريطانية أو مايسمي إم آي فايف لم تكترث بالمناظرة, ولم يقبض علي الطلاب الذين نظموها, ولم يتم فصلهم أو إقصاؤهم عن الجامعة, ولم يحاسب رئيس الاتحاد( أو رئيس الجامعة), واستمرت الحياة الجامعية العادية بمحاضراتها وأنشطتها في نفس اليوم, واليوم التالي, والأيام التالية!! هكذا تتكون أجيال من الشباب الحر, لاتوجد لديهم خطوط حمراء, يناقشون كل القضايا, لاوشايات, ولاوصايات ولا إرهاب, ولاخوف, يستعرضون ويدرسون وجهات النظر المتباينة, وفي النهاية يبلور كل منهم موقفه المبني علي رؤيته الشاملة وقناعته المتكاملة هكذا يترسخ في وجدان النشء أن كل فرد يستطيع المشاركة الايجابية في صنع القرار الجماعي إن لم يكن بالحديث المباشر فبالاشتراك في التصويت, واحترام نتيجته وفهمت بعد حين أن هذه التربية السياسية جزء ضروري لتعليم الشباب وبناء شخصيته, لايقل في أهميته عن تعليم المعارف والنظريات واتقان المهارات, حيث يتم غرس دعائم الديمقراطية في عقل المواطن وضمير الوطن في مرحلة عمرية مبكرة, يتعود فيها الصغار علي التعبير عن آرائهم بحرية, والمشاركة في القرارات السياسية, ويصبح هذا هو أسلوب حياتهم في مقتبل العمر. قلت لعل الأزمة في بلادنا مرجعها الي غياب التربية السياسية وحجب بذور الممارسة الديمقراطية عن وجدان الصغار فكيف تستقيم الأمور وقد منعنا الجامعة من الكلام في السياسة, وفرضنا القيود علي الطلبة واتحاداتهم بل تدخلنا في تشكيلها, وفصلنا الطالبة التي عبرت عن رأيها في موضوع التعبير بما يخالف رؤية المسئولين. تصور الحكام المتجبرون في بلادنا أن الكبت والقمع يجلب الاستقرار, فهل حدث؟ لقد قامت ثورات عظيمة ضد الظلم والقهر هزت أرجاء الأمة العربية, وبذل الشباب دماءهم وعيونهم وأرواحهم من أجل العدل والكرامة والحرية ويوم يزداد الوعي بين الناس سيرفض الواعون التأثير عليهم, سيلفظون الأكاذيب, وسيتصدون للخداع والتزييف والاستقطاب, وسيتجاوزون أزمات حقيقية أو مفتعلة, ويحمون إرادتهم من تدخلات رسمية أو شبه رسمية, ولن يستجيب الناس لمحاولات السيطرة وغسيل المخ من الحكام أو المعارضين وسيستطيعون في النهاية تمييز المخلص من المغرض. لا أدري لماذا يحاولون أن يبيعوا لنا الوهم, وأتعجب كيف يقوم الاستقرار علي حق ضائع وعدل تائه, وكيف يشعر الناس بالأمان والأسئلة الكبري مازالت حائرة, فمن طعن الشعب في أمنه وفتح السجون والمعتقلات؟ ومن طعن الميدان في قلبه وجاء راكبا الجمال والحمير؟ ومن قتل الثوار وصوب رصاص الغدر الي قلوبهم وعيونهم؟ أتتني الحكمة بأثر رجعي وأنا أشهد الاحتفالات في دولة مستقرة تحتفل بعيد جلوس ملكتها علي العرش,إبحرت السفن المزينة في نهر التيمس, وتهادت العربات الملكية تجرها الخيول المطهمة نحو القصر, ودقت أجراس الكنائس علي طول الطريق ابتهاجا بالموكب الملكي المهيب., لم تسقط هذه البلاد التي تبنت التربية السياسية, ولم يتزعزع استقرار تلك الدولة التي أطلقت حرية الكلمة, بل زاد استقرارها حين رسخت الممارسة الديمقراطية,وجلست الملكة( التي ناقشوا إحراقها) مستقرة علي العرش ستين عاما كاملة!! جامعة الإسكندرية