في هذه القصة التي وردت في سورة البقرة مناظرة بين إبراهيم الخليل مع من أراد ان ينازع الله سبحانه وتعالي في العظمة ورداء الكبرياء فادعي الربوبية. فيذكر المولي مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد, فأبطل الخليل عليه دليله, وبين كثرة جهله, وقلة عقله, وألجمه الحجة, وأوضح له طريق المحجة وقال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار, هذا الملك هو ملك بابل واسمه النمرود بن كنعان كوش بن سام بن نوح قال مجاهد وقال غيره نمرود بن فالح بن عابر بن صالح ارفخشذ بن سام بن نوح وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة, وكان قد طغي وبغي وتجبر وعتا, آثر الحياة الدنيا ولما دعاه إبراهيم الخليل إلي عبادة الله وحده لاشريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال علي إنكار الصانع, فحاج إبراهيم الخليل في ذلك وادعي لنفسه الربوبية فلما قال الخليل:( ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت) وقال قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق: يعني أنه إذا أتي بالرجلين قد تحتم قتلهما, فإذا أمر بقتل احدهما, وعفا عن الآخر, فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر. وهذا ليس بمعارض للخليل, بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة, ليس بمنع ولابمعارضة, بل هو تشغيب محض, وهو انقطاع في الحقيقة, فإن الخليل استدل علي وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها( هذا دليل) علي وجود فاعل ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفي علي كثير من الناس ممن حضره وغيرهم, ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة قال:( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) فإن كنت كما تزعم فافعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم أنك لاتقدر علي شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها, فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه وبطلان ماسلكه وتبجح به عند جهلة قومه, ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت. ولهذا قال سبحانه:( فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين) وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود, يوم خرج من النار ولم يكن اجتماع به يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلي ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبي عليه ثم دعاه الثانية فأبي عليه. ثم دعاه الثالثة فأبي عليه وقال: أجمع جموعك وأجمع جموعي, فجمع النمرود جيشه وجنوده, وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم, فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية, ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخره أربعمائة سنة عذبه الله تعالي بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتي أهلكه الله عز وجل بها.