رحل المخلوع كرمز لثقافة الاستبداد, لكن تلك الثقافة قائمة, وجذورها قوية وضاربة في أنماط التفكير السائدة, بل ووجدان المصريين وإدراكهم للعالم, بمن فيهم اللمؤيدون ثورة والتغيير. وتعتمد ثقافة الاستبداد علي نفي الرأي الآخر, والإذعان لمراكز السلطة في الدولة والمجتمع, وتخويف الشعب بنزاعات المؤامرة الخارجية, وهدم كيان الدولة, وتقسيم مصر, والفتنة الطائفية, وانهيار الاقتصاد, وغياب الأمن. كل هذه الفزاعات يستخدمها إعلام الفلول برغم ترحيبه الشكلي بالثورة, وللأسف تؤثر هذه بفزاعات في قطاعات واسعة من المصريين, وسأتحدث اليوم عن فزاعة هدم الدولة لأنها تستخدم كثيزا هذه الأيام, فعندما تنظم مظاهرات أو إضرابات, أو يحدث خلاف بين الأحزاب حول تشكيل تأسيسية الدستور, يصرخ إعلام الفلول: الدولة المصرية العظيمة في خطر, وعندما تنفجر أزمة نادي القضاة والبرلمان يحذرون من انهيار سلطات الدولة, والأمثلة كثيرة, لكن يجب أن نتعامل مع كل المشكلات والأزمات باعتبارها ممارسات ديمقراطية!! كيف؟ نعم ممارسات ديمقراطية, فالديمقراطية تعني التعدد والاختلاف, والاعتراف بتباين المصالح, لذلك تمنح حق الإضراب والاعتصام للجميع, ومع كل هذه الحقوق قد يتأخر اتخاذ القرار أو التوافق للجميع, ومع كل هذه الحقوق قد يتأخر اتخاذ القرار, أو التوافق بين الآراء المختلفة, وقد يسيء البعض استخدام حقوقه الديمقراطية, خاصة في الدول حديثة العهد بالديمقراطية, كما هو حالنا, أما في ظل نظم الاستبداد فلا مجال للاختلاف, فالرأي والقرار للحاكم, والاعتراض قد يصبح خيانة أو تآمرا يهدد كيان الدولة, وبهذا الأسلوب يفرض الحاكم رأيه, وبالتالي يتخذ القرار بشكل سريع وينفذ بغض النظر عن صوابه. لكن عملية اتخاذ القرار مختلفة في الدول الديمقراطية, فالحقيقة أو القرار الصائب لا يحتكره فرد أو حزب, وإنما كل الآراء قابة للنقاش والتفاوض بحيث يمكن الوصول إلي أفكار وصياغات جديدة, وقد لا تصل الأحزاب إلي موقف موحد بسهولة, ومن ثم تنشأ أزمة تستمر لعدة أيام أو أسابيع, المهم أن الدولة والمجتمع يتعودان العيش في ظل الأزمات والبحث عن حلول جديدة. الديمقراطية هي أفضل أسلوب عرفته البشرية حتي اليوم لحل المشكلات والأزمات, وقد تؤدي الاختلافات والصراعات السياسية والأزمات المتتالية إلي خسائر مادية ومعنوية, لكن هذه هي الديمقراطية, ولابد أن نتعلمها ونمارسها, ولا ننزعج من الآراء المختلفة والرافضة. ونسارع بوصفها بأنها هدامة وأصحابها يهدفون للقضاء علي كيان الدولة. علينا أن نتغير ونستوعب ثقافة الديمقراطية, ونمارسها بقدر من الثقة في النفس, والثقة في إمكان أن نخرج من أي أزمة أقوي وأكثر حكمة, من خلال الحوار والتفاوض وتقديم التنازلات, والبحث عن حلول جديدة خارج صندوق أفكارنا القديمة, وثقافتنا التقليدية الخائفة. يجب أيضا احترام رغبة الأفراد وسعيهم بكل الوسائل المشروعة للوصول للحكم, ولا نعتبر ذلك طمعا أو أمرا غير مقبول, فالديمقراطية تعني تداول السلطة, وحق الجميع في التنافس والصراع السلمي للفوز بأصوات الناخبين للوصول للحكم, وليس عيبا أن نصف سياسيا بأنه يسعي للسلطة, فهذا هو الأمر الطبيعي في ظل النظم الديمقراطية, وبالطبع كان هذا الوضع شاذا وغريبا في ظل نظام المخلوع والثقافة السائدة آنذاك. في هذا السياق من حق الإخوان تماما السعي للمقعد الرئاسي بعد أن سيطروا علي البرلمان, لكن حداثة التجربة الديمقراطية ومشكلات مصر تفرض عليهم كأغلبية التنازل والتفاوض لإشراك الأقلية وتشكيل حكومة ائتلافية, وإذا رفض الإخوان فإن من واجبنا وحقنا كمواطنين أن نضغط عليهم ليقدموا تنازلات ويتعلموا كيفية التعاون والعمل المشترك, وعندما دخل الإخوان والأحزاب والقوي المدنية في صراع طويل حول تشكيل تأسيسية الدستور فمن الخطأ اتهام أي طرف بالتخريب, أو السعي لهدم الدولة, لأن لكل منهم وجهة نظره ومصالحه التي تعترف بها الديمقراطية وتحترمها, لكن من حقنا الضغط عليهم للإسراع بالاتفاق ومراقبة الالتزام به. من حق الشعب وواجبه أن يظل في الساحة السياسية من خلال جمعيات ضغط, وحركات سياسية واجتماعية مستقلة عن الأحزاب, وفاعلة ضمن منظومة المجتمع المدني. يجب ألا يقتصر دور الشعب علي انتخاب البرلمان والرئيس, بل لابد من استمرار الشعب في لعب دور الرقيب والناصح والضاغط علي النخب السياسية, من خلال مؤسسات المجتمع المدني, وشبكات التواصل الاجتماعي والتظاهر السلمي. عميد المعهد الدولي للإعلام