من المعروف أن تقسيم القارَّة الإفريقية بين القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى في مؤتمر برلين 1884-1885 قد مثّل نقطة فارقة في التطور السياسي والاجتماعي الإفريقي. حيث عكست الحدود الاستعمارية التي رسمت على خرائط في أوروبا مصالح القوى الاستعمارية بالأساس, ولم تأخذْ في الاعتبار مصالح المجتمعات الإفريقية التي كانت قائمةً آنذاك. وعليه فإن الحدود الموروثة عن الاستعمار أدت إلى تقسيم الجماعات العرقِيَّة بين دولتين أو أكثر, كما أنها من جهة أخرى أدت إلى وجود جماعات عرقية ذات تاريخ من العداء والصراع داخل حدود إقليمية واحدة; وهو الأمر الذي شجَّع على تزايد حدَّة الصراعات العرقِية في كثيرٍ من المواقف. وعلى صعيد الإدارة والحكم في العهد الاستعماري, نجد أن الحكومات الاستعمارية قد لجأت إلى تغيير الخريطة العرقية في المستعمرات الإفريقية سواء عبر عمليات عدّة من الفك والتركيب, ففي حالات معيَّنة عمد المسئولون الأوروبيون إلى إيجاد وحدات عرقية جديدة, كما شجع الاستعمار الأوروبي المشاعر العرقية بين الأفارقة, وجرى تأكيد الاختلافات بين الجماعات العرقية, بينما تم إغفال وتهميش أوجه التشابه بهدف صرف الانتباه عن الاستغلال الاستعماري. ولذا نجد أن معظم بلدان حوض النيل وخاصة في منطقة المنابع تعاني من العديد من المشاكل والأزمات الكامنة, التي انعكست بشكل مباشر على أنظمة الحكم والسياسة, الأمر الذي أدى إلى تزايد ظواهر عدم الاستقرار في معظم هذه البلدان وتغيرها بشكل مستمر ودائم, ويمكن في هذا السياق أن نميِّز بين عدة مستويات لحالة عدم الاستقرار السياسي التي تسود دول الحوض, على النحو التالي: - التغيُّر العنيف للقيادة السياسية, بما يوضّح خطورة عملية تداول السلطة, حيث ظهر في بلدان الحوض جيل من القادة الذين تولّوا السلطة عن طريق القوة, مثل يوري موسيفيني في أوغندا, ومليس زيناوي في إثيوبيا, وأسياسي أفورقي في إريتريا، وحاول هؤلاء بعد ذلك اكتساب الشرعية من خلال التحالف مع بعض التوجهات الغربية, خصوصًا الأمريكية, وهذا الأمر واضحٌ في الحالة الإثيوبية التي تسعى لدور إقليمي أوسع تحت المظلَّة الأمريكية, والأمر نفسة ينطبق على يوري موسيفني في أوغندا الذي يتطلَّع للعب دور إقليمي يتخطى الحدود الأوغندية إلى دول الجوار. - الصراعات العرقيَّة والإثنية، حيث تشهد دول حوض النيل تباينًا عرقيًّا وتعددًا إثنيًّا واضح المعالم, تَمَّ توظيفُه في معظم الأحيان لتحقيق أهداف ومآرب سياسية خاصة لمصلحة جماعة حاكمة دون أخرى, وهو ما أدى إلى تصعيد التوترات الاجتماعية والسياسية بين هذه الجماعات المتمايزة, ومن أكثر هذه الصدامات دموية أحداث الإبادة العرقية البشعة بين التوتسي والهوتو في رواندا في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي. ولعل منطقة البحيرات العظمى تطرح نموذجًا واضحًا لهذا النمط من الصراعات, فليس بخافٍ أن إحدى إشكاليات الصراع وعدم الاستقرار في هذه المنطقة يرتبط في المقام الأول بحقيقة الروابط والتفاعلات العرقية بين (التوتسي) و(الهوتو), وتناقض هذه الروابط مع الحدود السياسية الموروثة عن العهد الاستعماري، فإذا كان إجمالي سكان كلٍّ من رواندا, وبوروندي يبلغ قرابة ثلاثة عشر مليون نسمة فإن 85% منهم ينتمون إلى قبائل (الهوتو) موزعين عبر الحدود الرواندية البوروندية مع دول الجوار الأخرى, فثمة نحو أربعمائة ألف من التوتسي (وبعضهم من الهوتو) يحاولون اقتفاء آثار أجدادهم في منطقة شرق الكونغو الديمقراطية, كما أن هناك قرابة المليون من الهوتو موزعين على الحدود التنزانية مع كل من رواندا, وبوروندي, وأوغندا، ولا يخفى أن هذه الروابط العرقية هي التي خلقت تحالفات سياسية إقليمية كتلك القائمة بين نظام حكم الرئيس موسيفيني في أوغندا ونظام حكم الأقليَّة من التوتسي في كل من رواندا, وبوروندي، ومن جهة أخرى فإن الهوتو يجدون تعاطفًا من قبل دول مثل تنزانيا, وكينيا, والسودان. وفي بعض الحالات مثل الكونغو الديمقراطية أدى الصراع الإثني والعرقي إلى ظهور نمط الدولة المنهارة. وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الصراعات العرقية والإثنية أصبحت تمثل بعدًا حاكمًا في نمط تطور بلدان منابع النيل, وتضع قيودًا هائلة على عمليَّتَي التنمية والتحوُّل الديمقراطي, بما في ذلك في البلدان التي كان ينظر إليها أنها أكثر تقدمًا, وأنها مؤهلة للتطور والنمو أكثر من غيرها مثل كينيا. - المحاولات الانفصالية والحروب الأهلية وخلافات الحدود: أفضت عمليات الاقتتال المسلَّح داخل حدود العديد من دول المنابع إلى تكريس حالة عدم الاستقرار السياسي للنظم السياسية القائمة, ولعل من الحالات الأبرز لذلك شيوع عدم الاستقرار في الكونغو منذ سقوط نظام موبوتو حتى الآن، مما نتج عنه ما بين مليونين إلى خمسة ملايين قتيل, مع وجود تدخل إقليمي من الدول المجاورة نتيجة للتداخل العِرقِي العابر للحدود. المثال الثاني يتضح لنا في حالة جيش الرب الأوغندي الذي يُقاتِل ضد نظام موسيفيني في شمال أوغندا, جيش الرب يمارس أعمال قتل وحرق تثير الرعب منذ سنوات عديدة, كما يتّخذ من منطقة جنوب السودان مسرحًا لعملياتِه, أو يستخدمها كقاعدة خلفيَّة لهذه العمليات, بحكم انتماء عدد كبير من أفراد هذا الجيش إلى قبائل الأشولي العابرة للحدود بين أوغندا والسودان, كما يتحرك هذا الجيش أيضًا عبر الحدود مع الكونغو وإفريقيا الوسطى، وهناك أيضًا كمثال ثالث العداوات ذات الطابع الحركي العنيف في إثيوبيا بين بعض الإثنيات والبعض الآخر. أما الخلافاتُ الحدودية فمن أشهرها الخلاف الذي ما زال قائمًا بين إثيوبيا وإريتريا حول الحدود, والذي تسبب في حرب طاحنة بين البلدين, بالإضافة إلى وجود العديد من النزاعات في هذا الشأن بين إثيوبيا والسودان حول منطقة القفشة, والسودان وكينيا حول مثلث إليمي. وقد أثبتت الأحداث أن عمليات التفاعل المكثَّف عبر المناطق الحدودية بين الجماعات العرقية الإثنية والثقافية المختلفة, تمثِّل في لحظات التعاون تواصلًا بشريًّا واقتصاديًّا وطبيعيًّا, أما في لحظات الأزمة والصدام فإنها تمثِّل خطورة حقيقية, حيث تزداد نسبة الخسائر المادية والبشرية وترتفع إلى أرقام مخيفة. ومع التغيّرات التي شهدها النظام الدولي, خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا, أضحى الحديث عن التعدّدية والديمقراطية, مسيطرًا على لغة الخطاب السياسي والحوار الفكري في كثير من مناطق العالم ومن بينها القارة الإفريقية، مما أدى إلى طرح فكرة الاعتراف بالتعددية والتحوُّل الديمقراطي كمدخل لإنهاء الأزمات التي تعصف بهذه البلدان وتحول بينها وبين الاستقرار، وقد تزامن ذلك ونتج عنه أيضًا فرض الدول الغربية المانحة لما يسمى بالشروط السياسية للمعونات, التي تنصُّ على ضرورة الأخذ بنظام السوق, والتعدّد الحزبي من أجل الحصول على القروض والمساعدات من هذه الدول. إلا أن ظروف التحوّل الديمقراطي التي شهدها عدد من الدول الإفريقية منذ أواخر الثمانينيات, أدت إلى حدوث اضطرابات عنيفة, الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات، وقد فسّر البعض ذلك بأن حالة الانفتاح والحرية السياسية تؤدي إلى ظهور التناقضات والانقسامات المجتمعية القائمة على أسس أولية (مثل القبليَّة أو الإثنية أو الجهوية) التي ظلت مكبوتة لفترة طويلة في ظل نظم الحكم التسلطية, لا سيَّما إذا كانت هناك جماعة عرقية أو إثنية بعينها تمارس السيطرة على الحكم, وتقوم بقمع الجماعات الأخرى، وقد أصبح واضحًا أن التحوُّل الديمقراطي وحده كعملية إجرائية لا يضمن بالضرورة احتواء التناقضات أو الصراعات الداخلية في البلدان الإفريقية بشكل عام. ويمكن أن نشير إلى العديد من الحالات التي أخفقتْ فيها عمليات التحول الديمقراطي في حوض النيل, مثل الانتخابات الكينية الأخيرة والتي كادت تتحول إلى حرب أهلية إثر الخلافات والصدامات الدموية واسعة النطاق بعد رفض التحالف المعارِض الذي كان يقودُه رئيس الوزراء الحالي رايلا أودينجا المنتمي إلى قبائل "اللو" لنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أجريت في نهاية عام 2007 واتهام الرئيس الحالي "كيباكي" المنتمي إلى قبائل "الكيوكو" المسيطرة بتزويرها, ولم تهدأ الأحوال إلا بعد تدخل دولي واسع النطاق قادتْه الولاياتالمتحدة للوصول إلى صيغة لتقاسم السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء. ومن ذلك أيضًا حالة الانتخابات الإثيوبية التي رفضت المعارضة الاعتراف بنتائجها قبل أسبوعين وكانت قد احتجَّت على نتائج الانتخابات السابقة قبل 5 سنوات بصورة أكثر عُنفًا نتج عنها سقوط أكثر من 200 قتيل بخلاف مئات الجرحى. ومن الواضح أن حدَّة الصراعات العرقية والسياسية في الواقع الإفريقي ترتبط في الأساس بمدى القدرة على الاستجابة لمطالب الجماعات العرقية, التي يمكن أن تكون قابلةً للتفاوض مثل المطالبة بالمساواة بين الجماعات العرقية المختلفة في عملية توزيع الثروة والسلطة; وهو الأمر الذي يتناقض مع السعي الدائم من قِبل الجماعات المهيمنة للحفاظ على الوضع القائم الذي يضمن لها الهيمنة على باقي الجماعات المصدر: الإسلام اليوم