علي مدي6 أيام قضيتها في موسكو, حاولت أن أتلمس بين غاباتها الشاهقة ومبانيها العريقة وطرقاتها المفتوحة, ووجوه سكانها المبتسمة , أسرار شعب يولد من جديد, وحضارة أمة تبعث مرة أخري, ومدنية دولة تشهد نهضة تنموية كبري علي أنقاض الاتحاد السوفيتي الذي انهار في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. تستطيع بمجرد أن تهبط أحد مطارات موسكو الثلاثة, أن تلتقط عنوان التقدم والقوة والفخامة, حيث تأخذك طرقات الصالات الممتدة بأطوال شاسعة عبر دهاليز المطار لتشاهد الناس الذين أتوا من كل حدب وصوب ما بين الأبيض والأسود, والعربي والأعجمي, إلا أن عدم معرفتك باللغة الروسية قد يتسبب لك في مشكلات قد تحد من متعة الزيارة, فهم شعب يعتز بلغته ولا يرضي عنها بديلا, وهذا سر آخر من عظمة الشعب الروسي. وما تكاد تستمتع بفخامة وجمال مطارها حتي تجد نفسك قد دخلت المدينة من أوسع أبوابها, حيث تتسلمك طرق منبسطة تحوط بها أشجار الغابات الشاهقة, وإن كنت من السعداء تجد أشعة الشمس تظهر علي استحياء وهي تداعب عيناك في خلسة تتسلل من بين الأشجار المترامية الأغصان. ساعة أو أقل قليلا هي مدة الانتقال من المطار الي المدينة التي تخطفك بأنوارها ومبانيها التاريخية, فلا تستطيع عيناك ملاحقة الزخارف التاريخية التي نقشت علي جدران المباني الواحدة تلو الأخري, لتشكل في مجملها لوحة جمالية تأخذك في رحلة الي الماضي لتحكي قصة شعب تمتد جذوره في عمق التاريخ.. وما بين الحجر يتجلي البشر في وجوه باسمة الي ضيوفها ناظرة وبحفاوة الترحاب معبرة.6 أيام ما بين لقاءات ومشاهدات ومقارنات, دائما كان السؤال الموجع لماذا لم نكن كذلك؟ ونحن أصحاب ال7 آلاف عام, إلا أن الواقع في موسكو وما سمعته وما رأيته وما لم أره يؤكد أننا بعيدون تماما, بل نحن وبكل الحسابات خارج مسيرة التاريخ, وعلي الفور اعترفت بالهزيمة ونحيت المقارنة بل أو التفكير فيها جانبا, لا لأتفرغ للاستمتاع وااستكشاف هذه الشعوب, ورحت أبحث عن الإنسان صانع المعجزات في روسيا, فوجدته كل شئ ويستحق كل شئ, منذ نعومة أظافره, بل منذ أن يكون في رحم أمه حيث يحصل علي الرعاية الطبية الكاملة بالمجان, بل يحصل والده علي3 آلاف دولار من الدولة مكافأة له, واذا أنجب الطفل الثاني حصل علي10 آلف دولار, واذا زاد الي الثالث كان الجزاء عظيما بقطعة أرض مساحة200 متر ودعم مالي لبنائها, وعندما سألت عن هذا الكرم الزائد مع الآباء الذين يعاقبون عندنا في مصر, قالوا: إن روسيا التي يبلغ تعداد سكانها150 مليون نسمة, تواجه أزمة في نقص المواليد لمواجهة احتياجات التنمية, وبالتالي لجأت الي حوافز تشجيعية للانجاب بعد أن أصبحت هذه المشكلة تواجه الجيش الروسي في مسألة تجنيد شباب جدد, وبالتالي راحوا يغدقون علي الآباء بالحوافز والمكافآت الانجابية لمواجهة هذه المشكلة. كما حرصت الدولة علي الاهتمام أيضا بدخول المواطن الروسي من خلال ضمان حد أدني للأجر لا يقل عن5 آلاف روبل, وهي العملة الروسية, وعلي سبيل المثال فإن السكرتير في روسيا يبدأ مرتبه من25 ألف روبل بما يعادل6 آلاف جنيه مصري, فيما يبلغ متوسط الأجر في روسيا نحو1700 دولار, ومن المقارنات أيضا أن المرأة في روسيا تحصل علي ثلثي مرتب الرجل بمعني أنه اذا تقدم لوظيفة معينة رجل وامرأة فإن مرتب المرأة يقل الثلث عن الرجل ومواعيد العمل في غالبية المؤسسات يمتد من9 صباحا وحتي السادسة مساء, وهناك ساعة راحة في الظهيرة, كما يؤمن المجتمع الروسي بالتخصص في العمل فلا يوجد شخص يجمع بين عملين بل لا يمكن تحويل عمل شخص ما للقيام بعمل آخر. وتمثل التنمية البشرية محورا رئيسيا في تقدم المجتمع الروسي, حيث يوجد برنامج قومي متكامل للنهوض بالبشر من خلال التدريب والتكنولوجيا, بل ان الرئيس المنتهية ولايته حاليا ميدفيديف والمرشح لرئاسة الوزراء أعلن قبل أيام أن التكنولوجيا ستكون في صدارة برنامجه الجديد في الحكومة خلال المرحلة المقبلة باعتبار الضمانة الأساسية لتقدم روسيا.. ولم يقف التطور في المجتمع الروسي عند هذا الحد بل انعكس علي سلوكيات المجتمع وثقافته, وعلي سبيل المثال تغيرت مفاهيم السكن لدي القاعدة العريضة من الشعب لينتقل الي مرحلة الرفاهية في السكن, وقد سادت ثقافة البيت الكبير لدي العديد من الطبقات, بل أصبحت من تطلعات الطبقة الكادحة, حيث كان السائد أن السكن للغالبية من الشعب في وحدات لا تتجاوز غرفتين وصالة, ومع التطور والنهضة الاقتصادية لجأت الغالبية الي توسيع سكنها وتم تعديل هذه الثقافة ليطمح الكثير الي الوحدات الفاخرة ذات المساحات الكبيرة.. بل أصبح مستوي السكن ونوع السيارة الخاصة أحد عناصر الوجاهة الاجتماعية في المجتمع الروسي. ولهذه الأسباب بدا أن هناك اهتمام كبير بالثروة العقارية التي تمثل عنصرا رئيسا ومكونا من حضارة موسكو وبالتالي اهتمت الدولة بهذه الثروة وحافظت علي صيانتها, فلا يخلو شارع إلا وتجد فيه بعض العمال وهم يتسلقونه للقيام بطلائه ودهان أبوابه وعندما سألت عن هذه الظاهرة الحضارية قالوا: إن هناك هيئة حكومية تتولي أعمال الصيانة المستمرة للمباني والأسوار وهي تعمل طوال العام في هذه المهمة حتي ما تكاد أن تنتهي من مبان أو أسوار منطقة حتي تبدأ فيها من جديد, وهو ما جعل المدينة لامعة باستمرار. واذا كانت تلك هي صورة موسكو فوق الأرض, فإنها لا تختلف أيضا تحت الأرض, حيث تربطها أقدم شبكة مترو أنفاق بعمق نحو150 مترا تحت الأرض ويعمل منذ عام1935 من خلال16 خطا يربطها خط دائري في قلب العاصمة هو مشروع عملاق بمعني الكلمة, لأنه برغم قدمه كأنه شيد بالأمس حيث الفخامة من النظافة والجمال الذي تضيفه الجداريات التي تم نقشها علي جدران المحطات علاوة علي الانضباط والاتساع الذي يوفره القطار من الداخل للركاب ليجعلك تشعر بالآدمية والاحترام. لكن هل هناك مشكلات تواجه المواطن الروسي أو المجتمع بصفة عامة؟ والإجابة بالطبع فلا يوجد مجتمع بلا مشكلات ولكن تتفاوت الدرجة من مجتمع لآخر, إلا أن الروس كمجتمع يواجه مشكلات في ارتفاع معدلات تعاطي المخدرات بين الشباب والكبار وكذلك زيادة نسبة الطلاق من أخطر المشكلات التي تهدد تماسك الأسرة ونهوض المجتمع, فقد لاحظت أن روسيا نهارا أو تحديدا في الساعة السادسة هي عمل وانتاج وليلا هم قوم مغيبون معزولون عن العالم بفعل ما يشربونه ويتعاطونه.. في اليوم السادس, قمت بحزم أمتعتي عائدا الي الوطن الأم, وقبل أن أصعد الي الطائرة اقترب مني شخص يحمل ملامح وطني وفي يديه جواز سفره وتذكرة الطيران, وعندما حدثني وجدت أنه مصري فر من جحيم البطالة في مصر قبل10 أشهر باحثا عن عمل في روسيا إلا أنه لم يوفق شأن شأن آلاف المصريين الذين يسافرون للعمل بدون عقود ويفاجئوا بالواقع المرير, المأساة التي يعيشها الأخ محمد وهو من كفر الشيخ أنه لا يجيد القراءة ولا الكتابة وهو يريد العودة الي مصر لكنه لا يستطيع بسبب انتهاء فترة صلاحية تذكرة العودة ولا يملك من الأموال ما يساعده علي اعادة الحجز مرة أخري, وقال: انه يبيت في مطار موسكو منذ3 أيام لايجاد حل لمشكلته وعندما طلبت من مسئولة مصر للطيران التدخل أشارت عليه أن يعيد الحجز من مكتب الشركة في العاصمة وأعطته العنوان ورقم التليفون, وأمام ضيق الوقت تركت محمد داعيا له بحل مشكلته, وبعد دقائق صعدت الي الطائرة لأجد صحف القاهرة تجمع في عناوينها مشاكلنا وهمومنا بين قيام أنصار حازم أبوإسماعيل بقطع الطريق أام وزارة الدفاع, وتصاعد الأزمة بين الحكومة والبرلمان وتهديدات بمليونيات في ميدان التحرير, وقد كان هذا المشهد كفيلا بإعادتي الي هموم ومشكلات وطن يحلم بنجاح ثورته ضد الظلم. ربما يأتي اليوم الذي نصبح فيه دولة متقدمة!