لم يكن هناك أي شك في أن تقوم وسائل الاعلام الروسية بهجوم واسع النطاق علي وزير الدفاع أناتولي سيرديوكوف عقب زيارته الي واشنطن في الاسبوع قبل الماضي, مبرزة أن النتائج التي تم الاعلان عنها هزيلة. إذ انحصرت في توقيع مذكرة تفاهم بين وزارتي الدفاع في البلدين وبيان مشترك عن العلاقات الدفاعية. ولكن سرعان ماظهرت النتائج في تلميحات مصادر أمريكية أكدت أن أكثر النقاط أهمية بقيت وراء الكواليس, وعلي رأسها تراجع روسيا عن مقاومة نشر عناصر الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية. هذا التراجع يأتي مقابل امتناع موسكو عن نشر صواريخ اسكندر في مقاطعة كاليننجراد غربي روسيا, وقبول الولاياتالمتحدة دخول محطة المراقبة الرادارية الروسية جابالا المنصوبة في أذربيجان, ضمن منظومة الانذار المبكر التابعة لأنظمة الدفاع الصاروخي لحلف الناتو. هناك نتائج أخري, تحدثت عنها مصادر أمريكية قريبة من وفدي المباحثات, حيث طلب البنتاجون من موسكو ارسال مدربين عسكريين ممن لديهم خبرة قتالية في أفغانستان الي وحدات القوات الخاصة في الجيش الأمريكي وبحث إمكانية ارسال عدد من الوحدات المقاتلة الي أفغانستان. وأكد مصدر في الوفد الروسي أن الحديث يدور في الوقت الراهن عن عدد قليل من الخبراء والمدربين. لكن وفد روسيا لم يجب لا بالنفي ولا بالإيجاب عن الطلب الثاني لأنه يتطلب قرارا سياسيا من القيادة العليا. علما بأن هناك معلومات تفيد بأن القوات الخاصة الروسية يمكن أن تشارك في أعمال إحدي الشركات الأمنية الخاصة في أفغانستان. وذلك علي غرار مايجري في العراق, حيث تعمل الشركات الروسية من الباطن مع شركات إسرائيلية. لقد أعلنت روسيا مرارا وتكرارا طوال السنوات الماضية, منذ تورط الأمريكيين في أفغانستان, إصرارها علي عدم التورط المباشر مرة ثانية في أفغانستان. ولكن يبدو أن واشنطن مصممة علي دفع الآلة الروسية مجددا الي مستنقع أفغانستان وتكرار التجربة المريرة للجيش السوفيتي في ثمانينيات القرن العشرين. ومن دواعي الدهشة, هو أن نفس الخبراء الروس المطلوبين للجيش الأمريكي هم أنفسهم الذين كانوا مع الجيش السوفيتي الذي تكبد خسائر فادحة. فهل تريد الولاياتالمتحدة الاستعانة بهؤلاء أنفسهم, أم أن هناك أهدافا أبعد من ذلك, أقلها ضرب مصداقية روسيا في نسج علاقات متينة وجديرة بالثقة مع الدول الاسلامية, ومع الشعب الأفغاني بالذات ؟ النتائج الأخري لهذه الزيارة تكشفت علي الفور. إذ ظهرت تصريحات بأن هناك إمكانية للمصادقة علي اتفاقية تقليص الأسلحة الاستراتيجية الهجومية قبل نهاية العام الحالي, وهي الاتفاقية التي وقع عليها الرئيسان الروسي دميتري ميدفيديف والأمريكي باراك أوباما ولم يصادق عليها الي الآن لا مجلس الدوما الروسي ولا مجلس الشيوخ الأمريكي. ثم كان مرسوم الرئيس الروسي بامتناع روسيا عن تنفيذ العقود الخاصة بصفقة منظومات صواريخ( إس 300) لايران بقيمة800 مليون دولار, وذلك ضمن تنفيذ العقوبات التي فرضتها الأممالمتحدة علي طهران في9 يونيو الماضي. هذا علي الرغم من أن مسئولين كبار, من بينهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الدوما قنسطنطين كوساتشوف ورئيس المصلحة الفيدرالية للتعاون العسكري التقني ميخائيل دميترييف كانوا قد أكدوا مرارا أن روسيا سوف تنفذ الاتفاقية الموقعة مع إيران, لأن العقوبات لا تشمل الأسلحة الدفاعية. علي الرغم من كل ذلك لن تتسلم إيران تلك المنظومات الدفاعية. ويبدو أن السبب وراء القرار الروسي لا يكمن في التزام موسكو بقرارات الأممالمتحدة, بل في علاقاتها مع أطراف أخري. فقد وقعت روسيا مع إسرائيل في ابريل الماضي اتفاقية لشراء طائرات إسرائيلية بدون طيار بقيمة53 مليون دولار. وقبل أيام زار موسكو وزير الدفاع الاسرائيلي إيهود باراك. وخلال تلك الزيارة تم التوقيع علي اتفاقية للتعاون العسكري التقني بين موسكو وتل أبيب هي الأولي من نوعها في التاريخ. هناك بطبيعة الحال وعود بأن تل أبيب, في إطار الاتفاقية المذكورة, سوف تزود موسكو بما تملكه من تقنيات متقدمة. إضافة الي رغبة روسيا في الحصول علي تقنيات عسكرية أمريكية وفرنسية. ومن هنا يبدو أن روسيا قررت التضحية بمصالح جيوسياسية واضحة مقابل مكاسب غير مضمونة تتمثل في الاستفادة من التعاون العسكري التقني مع الغرب واسرائيل في إطار خطة التحديث الجديدة للقوات المسلحة الروسية التي تأخذ بالحسبان إمكانية شراء أسلحة وتقنيات عسكرية متطورة من الولاياتالمتحدة, في سابقة هي الأولي منذ الحرب العالمية الثانية, للاستفادة من الانجازات الأمريكية في مجال الأسلحة عالية الدقة. والحديث هنا يدور حول شراء التقنيات وعملية تنظيم التصنيع في روسيا. غير أن خبراء روس مثل عضو المجلس الاجتماعي التابع لوزارة الدفاع إيجور كوروتشينكو يري أن البنتاجون لن يسمح لروسيا بكشف اسرار أسلحته الحديثة. ولعل مايؤكد ذلك هو أن الولاياتالمتحدة تسعي جاهدة لثني حلفائها عن التعاون مع روسيا. إذ أبدت استياءها من شراء روسيا الطائرات الاسرائيلية وحاملة الطائرات الفرنسية ميسترال.