انتفض الصبي الصغير فزعا عندما وجد أمه تستدير نحوه, وقد تطاير الشرر من عينيها معبرا عن الغضب الشديد الذي ظلت تكتمه طوال طريق العودة. أفلت صلاح بجسده الرفيع من أمامها. وتكوم في ركن صغير بين دولاب قديم وسرير مغطي ببطانية متآكلة الأطراف, ارتفع بكاؤه عاليا بطريقة يغلب عليها التصنع, وقد نجح أن يجعلها بدلا من ضربه تكتفي بالصراخ والزعيق, وتمطره بالشتائم التي تطال أباه. لم يكن صراخها ليثير كبير اهتمام عند الجيران في الحارة الضيقة التي تندلع فيها المشاجرات والشتائم لأوهي الأسباب, لكن صوتها هذه المرة كان عاليا وحادا لدرجة أثارت انتباه جارتها في الحجرة الملاصقة, هرولت تطرق الباب لتقف علي ما حدث, عندما وجدتها في هذه الحالة من التوتر والانفعال أخذت تهدئ من روعها, لكن نوبة الغضب التي انتابت أم صلاح كانت كإعصار قوي يحمل سيلا من الشتائم والسباب انهمر علي صلاح وأبيه بصورة هستيرية لدرجة أثارت مشاعر الجارة, فاندفعت تقاطعها في احتجاج حرام عليكي, الراجل مات ولا تجوز عليه إلا الرحمة. كان لهذه الكلمات تأثير واضح علي الأم, فقد لاذت بالصمت, وأطرقت برأسها ونظراتها المنكسرة المستكينة تعبر عما تشعر به من عجز وقلة حيلة, فهي تدرك في قرارة نفسها أن زوجها لن يغضب منها, وقد كان ملء حياتها, لم يبخل عليها بشيء, كان يعمل سائقا وسافر إلي ليبيا منذ أربع سنوات ليوفر لهم حياة أفضل, توفي هناك في حادث سيارة, كان الحزن شديدا إلا أن الواقع كان أشد قسوة, لم يكن أحد من أسرته أو أسرتها يملك أن يساعدها, تحملت المسئولية وحدها, كانت تمر عليها بعض الأوقات تجد نفسها في أمس الحاجة أن تزعق وتصرخ وتشتم أقرب الناس إليها لتفرغ ما تكتمه في صدرها من ألم وحرقة. عندما استعادت أم صلاح هدوءها أخذت تروي لجارتها تفاصيل ما حدث, فقد اضطرت أن تصطحب ابنها معها في الصباح بعد أن بدأت إجازة مدرسته الابتدائية, كان يفتح عينيه في تثاقل وهي تساعده علي ارتداء ملابسه, عندما ذهبا إلي البيت الذي تعمل فيه, رحبت به السيدة وقدمت له الحلوي, لم تمض ساعات قليلة حتي اكتشفت صاحبة البيت أن صلاح أتلف أشياء كثيرة, شعرت بحرج شديد عندما طلبت منها ألا تصطحبه معها ثانية, لم يستغرق التفكير منهما في هذا الموضوع وقتا طويلا, كان الحل الذي اقترحته الجارة بسيطا, وهو أن يلتحق صلاح بورشة أو محل مثل كثير من الأولاد الذين في مثل سنه. تحمست جارتها كثيرا لاقتراحها, وفي اليوم التالي ذهبت إلي أم صلاح تخبرها أن زوجها وفق في إيجاد عمل لابنها في ورشة نجارة, مع بداية الأسبوع كانت تقف مع ابنها أمام الورشة تتحدث مع صاحبها وتدعو له بطول العمر, بينما كان صلاح ينظر حوله بنظرات بريئة حائرة. عندما عادت إلي الحجرة فتحت النافذة المطلة علي الحارة.. هبت عليها نسمة شجن قديم, تذكرت زوجها عندما كان يأتي من إحدي سفرياته ويدق علي شباك النافذة نقرات منغمة فتعرف أنه عاد يحمل معه أصنافا من الحلوي التي يحبونها, مشبك من دمياط, أو حمص وحلاوة من طنطا.. ذرفت عيناها بالدموع. مر أسبوعان انتظم فيهما صلاح في العمل الجديد, يذهب في الصباح ويعود منهكا في المساء, تغيرت فيه أشياء كثيرة: أصبح قليل الكلام, فقد بعض توهجه, ولم يعد يشارك أصحابه في اللعب واللهو. حتي كان ذلك اليوم كانت الأم تجلس مع جارتها عندما فوجئت بصلاح يدخل عليهما وقد علت وجهه سحابة حزن, سألته أمه في قلق لماذا جاء مبكرا؟! ازداد قلقها عندما وجدته يتجه إلي النافذة وينظر إلي الصبية وهم يصيحون ويلعبون, استطاعت الجارة أن تجره إلي الحديث معها, كان يتكلم بصوت مبلل بالدموع, حاولت أن تطيب خاطره, قالت له: إنها ستطلب من زوجها أن يذهب إلي الأسطي ليوصي عليه ولا يسيء إليه مرة ثانية. ابتسمت وهي تربت علي ظهره, ونظرت إلي أمه تطمئنها بأن صلاح اقتنع بكلامها وأنه سيعود إلي العمل. لم تكد تنتهي من كلامها حتي فوجئت بالصبي يقول: بس لما أرجع الشغل.. عايز الأسطي ما يشتمش أبويا. مرت لحظات ساد فيها الصمت, ثبتت فيها الأم نظراتها في وجه ابنها التي اكتشفت لأول وهلة أنه اكتسب ملامح أبيه, وجدت نفسها تقول بنبرات حاسمة: أنت مش هترجع الورشة تاني, وحتكمل في مدرستك. اختنق صوتها بالدموع, أحست أنها تسمع نقرات منغمة تدق علي النافذة, شعرت بنسمة حانية تدخل الحجرة. حسين صادق