تواصل العطش'' هي المجموعة القصصية ال(السادسة) في مشوار عاشق القصة القصيرة( محمود أحمد علي)..فقد صدرت له من قبل مجموعات خمس( الحقيقة المرة)..(من يحمل الراية..؟!)..(رائحة القدس)..(صور باهتة)..(رءوس تحترق). وبرغم عبق وعذوبة تلك المجموعات, وبرغم حصوله علي العديد والعديد من الجوائز إلا أنه من وجهة نظري المتواضعة لم يأخذ حقه النقدي, والإعلامي الذي يستحقه, ربما يرجع ذلك لتمسكه الشديد بمدينته( فاقوس) بمحافظة الشرقية, فكثيرا ما ألح عليه بعض الآصدقاء بالعيش في أحضان القاهرة, حيث كل شئي متاح وسهل, وبقدر وجوده واحتكاكه الدائم والمستمر بالنقاد والصحفيين مايكون بقدر بزوغ نجمه في عالم الأدب, أو ربما يرجع ذلك إلي القضاء علي ماهو جيد وثمين في هذا البلد, في ظل وجود أنصاف وأرباع بل واثمان أدباء يتربعون علي عرش الأدب, كل هذا يحدث وسيحدث في ظل وجود بعض النقاد( الملاكي) المسيطرين.. القابضين للأسف الشديد علي حركة تقدم النقد الحقيقي والأدباء الحقيقيين, وفي وجود( شلل) بعينها.. نعم( شلل) قد رسخت مبادئ منها( تكتب عني أكتب عنك)..(شيلني واشيلك).. ( معانا تطلع لفوق.. مش معانا ندفنك حي) ولكني أعده, وأعد الكتاب المجدين المخلصين, وأقولها صريحة مدوية, لم ولن يدوم الحال, فسوف يأتي اليوم الذي يتم فيه( غربلة) كل الأدباء, ومدعي الأدب, ب(غربال) فتحاته ضيقة, ولن يتبقي غير الأدباء الحقيقيين المخلصين لهذا الجميل. تبدأ المجموعة القصصية(تواصل العطش) للأديب/محمود أحمد علي بقصة''ليلة العيد'' تنتهي بقصة''الوجه'' وتحمل هذه المجموعة في طياتها خمس عشرة قصة قصيرة تحمل آمال وأحلام وإحباطات شخصيات كثيرة, تلك الشخصيات العطشي والتي تلهث طوال سطور القصص إلي من يروي ظمأهام. و''تواصل العطش'' عنوان يوحي بسلسة ممتدة من ألوان العطش المختلفة ماديا, وفكريا, واجتماعيا, واقتصاديا, والإهداء جاء متوافقا مع ذلك العنوان: ( إلي كل العطشي في كل زمان ومكان).. حتي المفتتح المأخوذ من مسرحية'' ليلي والمجنون'' للراحل''صلاح عبدالصبور''.. (مستقبل.. في بلد لا يحكم فيه القانون يقاد الناس إلي السجن بمحض الصدفة.. لا يوجد مستقبل تتعري فيه المرأة كي تأكل.. لايوجد مستقبل في بلد يتمدد في جثته الفقر كما يتمدد ثعبان في الرمل.. لايوجد مستحيل) كأنه إيحاء وإيماء بأن العطش هو المجنون الذي يكاد أن يحتوي ليلي, ويتواصل في كل أزمنتها وأمكنتها..!! ولغة محمود احمد علي لغة غير مسالمة.. نعم غير مسالمة تزعج القاريء, لاتصل إليه أو تجعله يتواصل معها من أقرب طريق فتشعر منذ اللحظة الأولي لقراءة القصة تكتشف أنك متسابق دون ارادتك حتي تجد نفسك قد وصلت إلي نهاية القصة, بتلك النهاية التي لم تكن تتوقعها رغم أنك أمسكت بمفاتيحها.. ومعظم قصص المجموعة تكشف عن عطش الإنسان بشتي صوره.. عطش المال.. عطش الجنس.. عطش الخلاص من الفقر..عطش الأحلام.. إنها تتحدث عن آمال وأحلام وطموحات الطبقة الوسطي التي تلاشت وذابت في سراب وضباب, فانمحت تلك الطبقة, إنه يحلل ببساطة ووضوح وعمق وعاطفة صادقة شخصيات قصصه, تلك الشخصيات التي نراها, ونتحدث معها ليل نهار.. كاشفا تلك الشخصيات المتناقضة الغريبة والعجيبة بين الخير والشر. كما يقدم( محمود أحمد علي) في مجموعته الجديدة(تواصل العطش) مرثية حزينة وغاضبة النبرة من خلال خمس عشرة قصة قصيرة: ليلة العيد/الحداد/دعواتها/تاتا..تاتا/العطش/قطة المساء/اعتراف/الصندوق/اللعبة/الضعف الدائري/إعلان زواج/الصراصير/لعب عيال/القط/ الوجه, وتحتوي المجموعة القصصية مجموعة من اللوحات الصارخة المتتالية المتعاقبة والمرسومة بدقة وزخم شديدين للحياة في المجتمع, قلما رسمها كاتب من قبل في لغتها وحكاياتها وأحداثها وفي تشخيصها للداء: الجوع/الفقر/القهر/الحرمان/الإحباط/الحلم المستحيل/الخلاص............. الخ بدأت المجموعة بقصة(ليلة العيد)..العيد الملئ بالحزن والعطش والظلم والخداع والأمل المختنق في نفس الطفل البريء الذي كل حلمه الفقير الممتد داخله, ارتداء القميص والبنطلون والحذاء في يوم العيد, كي يصبح مثل أصدقائه من عيال الحارة. والمؤلف في هذا يدق ناقوس الخطر.. الذي يزحف نحو أفراد القرية, والظلم هنا متمثل في خفيري عمدة البلد عندما يقومان بحيلة ماكرة ليأخذا من الأم الوزتين قبل بيعهما في السوق, هنا يموت حلم الطفل الجالس بجوار أمه منتظرا بيعهما حتي يتسني لإمه شراء ملابس العيد. وتعود هي وطفلها إلي القرية.. إلي سراب الغطش وضبابه, ويضطر الطفل أن يستقبل العيد بثوبه المرقع, والدموع, وتأتي قصة( الحذاء)..; لكي تحكي بين الأمس واليوم عن ألسنة الأخذية الساخرة العطشي اللاهثة وراء سراب الأمل, كامتداد السراب العيد في القصة السالفة. و محمود احمد علي يمتلك المقدرة التصويرية علي السرد القصصي الجميل والدقيق والممتع لطبيعة المصرية بناسها وأشجارها وشوارعها, وما تخفيه الأنفس, وتحوي المجموعة علي سرد ثري يتحلي بالوفرة والكثافة والعمق والإحاطة والانسيابية.. إننا أمام رسام بارع ومقتدر يفيض فنه بالحيوية والصدق والجمال. ثم في القصة التالية نري عطشا لدعوات الأم الطيبة في قصة( دعواتها)التي تبدو كصورة في إطار علي الحائط الذي يتطلع فوقه شريط أسود عريض متعطش هو الآخر لدعواتها, ثم تأتي قصة( العطش) التي تبدأ بمونولوج طويل يعبر عن العطش المتواصل في حياته, يتخلله السرد الحكائي السريع, ويكتشف أنه أرجوحة بين عطش الحلم وعطش طفله, متمنيا أن يهرب من الحقيقة إلي الفانتازيا والحلم. ''تواصل العطش'' مجموعة قصصية تنتمي إلي الواقعية الاجتماعية, ومازال( محمود احمد علي) يحمل الكاميرا مصورا لهاث العطش في طيات أقاصيصه بواقعية ليست فوتو غرافية, أقاصيصه التي أري لغتها مكثفة.. متدفقة سريعة في تنقلاتها عبر المشاهد المختلفة المترابطة في آن واحد. وفي قصة( قصة المساء) انظر إلي التشخيص الرائع حين يصف عطش القطة لمجئ الرجل الذي تنتظره دوما, ويكون السرد كما يلي: (جلست القرفضاء أمام عتبة داره, تعد الدقائق والثواني..!!) ثم وهي تنظر من حين إلي آخر إلي عقارب ساعة جامعة القاهرة, تنتظر في شوق دقات الثانية عشرة, ثم في النهاية يأكلها عطش جوعها بعد أن يتأكد لها أن صاحبها التي انتظرته طويلا, قد أكل اللحم كله في وجبة عشاء, فما كان منها إلا أن دخلت عليه من نافدة حجرته; لتضع أسنانها في لحم بطنه. ولأن الكاتب قصاص فعلا وقولا, فالخيال الفني عنده يتم الواقع ويصبح كلاهما متناسبا مع الآخر ومؤتلفا معه من يفيض بالحياة والإقناع الجمالي والفني, وهو يطعم أسلوبه وسرده بالأسلوب الشاعر ي, ومجموعة(تواصل العطش) في عبارة واحدة هي آمال وأحلام الإنسان المصري. وفي قصة(اعتراف)وبأسلوب ساخر نري المحامي في عطش لنيل رحيق الحرية والهروب من سجن زوجته وقفصها الذهبي. وفي قصة( اللعبة) تري الزوجة أنها في عطش إلي أيام الحب العذب وتتمني أن تظل لعبة في يد زوجها, الذي يري نفسه في المقابل في يد الحياة متعطشة لري الأمل. وفي قصة(العطش الدائري)نري عطش الزوج البخيل لأحضان زوجته, فينسي بخله, ثم عطش ابنته إلي أحضان حبيبها, فتعطيه نقودها وهكذا نري العطش في دائرية نحو الشبق والشوق. وفي قصة( إعلان زواج) تكتب المرأة الأرملة بعد اليوم الثالث والأربعين إعلانا عن مواصفات الزوج الذي تتمناه وتتعطش ليوم الزواج ناسية وعودها أن تظل حافظة لذكري زوجها الراحل. وتربط( قصة الصراصير) ربطا رائعا بين رائحة عصير كوب الليمون وانجذاب وعطش الصراصير المنزلية لها, وبين الصراصير الآدمية التي تنجذب إلي عطر رائحة الليمون علي فستان الفتاة المحبوبة لهم جميعا في عطش لحبها. لقد استطاع الأديب/محمود أحمد علي أن يجمع لنا قصصا لأشخاص نراهم ونعرفهم حق المعرفة, ولكنه أجاد رسمها جيدا حتي جعلنا نراها لأول مرة, رغم معرفتنا الجيدة من قبل. لقد استطاع بحق أن يضفر الماضي والحاضر في جدلية واحدة وأن يقدم رؤية قوية ومتماسكة فنيا لرحلة الانسان المصري في إبائه وتمرده لتحقيق العيش الحر الكريم.. لقد أجاد الكاتب الإمساك بالكاميرا جيدا.. نعم جيدا ولولا معرفته الجيدة بهذه الكاميرا لما خرجت لنا هذه الصور القصصية الجميلة.. إننا أمام قصاص متمكن ومتبصر قادر علي تشكيل رؤاه في نسيج فني جميل ومحكم. في آخر المجموعة نجد قصة من الفانتازيا يتعطش فيها الرجل لوجه حبيبته التي لم يتزوجها, فيرسم وجهها, عندما تدخل عليه زوجته الحجرة يتخيلها جسدا بلا رأس, فيضع وجه حبيبته; كي يكمل الحلم باكتمال الزوجة/الجسد مع الحبيبة/الوجه, لكنه بالطبع يفيق ليجد نفسه في عطش متواصل.. متواصل..!! لقد أجاد(محمود أحمد) في اختيار عناوين قصص مجموعته القصصية( تواصل العطش)وقد أجاد أيضا في اختيار أفكار قصصه الطازجة, ذات الرائحة المميزة, وأجاد إجادة بالغة في تناولها, بأسلوب سهل, وبكلمات وجمل تلغرافية; حتي خرجت لنا هذه المجموعة وكأنها مسبحة تشد بعضها بعضا, فقلما نجد مجموعة قصصية مترابطة الأفكار, وقلما نجد مجموعة قصصية بها وحدة الموضوع.