قيل إن الشمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام الحسين رضي الله عنه قد مات قبل أكثر من ألف سنة. إلا إنني اشعر انه مازال يعبث في روحي.. أراه كل يوم يغتالني ويصارع الكون حتي يسفك دمي.. أرصد ظله في كل صوب, وأسمع صوته تارة وأكتشف وجوده يتربص أنفاسي تارة أخري. أراه برداء عصري مختلف عما جسده تاريخه القاتم. أتنبه لبذلته ذي الماركة العالمية الفاخرة وربطة عنقه الحرير.. أشم عطوره الفرنسية التي لا املك المال الكافي للنظر إلي علبتها فقط. استبدل سيفه بمسدس كاتم للصوت, وصار ينال من كل ناطق باسم الحرية التي أسس لوجودها الحسين رضي الله عنه. ربيع شاحب علمتني طفولتي ان الربيع فصل للورد, وللحب ايضا.. ولكنه جاء في وطننا العربي من دون خضرة ولا أريج, من دون موعد غرامي ولا قبلة بين اي حبيبين, فصحح لي الربيع معلومتي التي كانت تحمل مغالطة كبيرة.. حل الربيع علينا متقدما.. متجاوزا علي كل ما قثد تعلمناه... فتح بابه علي مصراعيه ليزرع في مشاتل أزهارنا شواهد من قطع المرمر نخلد فيها اسماء من ارتضينا خساراتهم من اجل ربيع صحراوي شاحب! السيرك حياتنا.. سيرك مفتوح,نلعب فيه بخطورة فيقتل بعضنا البعض الآخر من دون مبالاة لحجم الخسارات الثقيلة المترتبة علي اللعبة. نصفق بحرارة لأسود تنهش فينا بلا رحمة, نبكي تارة ونضحك تارة اخري من أجل إثارة الجمهور.. إلا اننا اكتشفنا انه ما من مشاهد يهتم بموتنا! قلم متحرر تحرر القلم من جيب مالكه, بعد ان عاني الإهمال وسئم من بذلة صاحبة الرثة التي تفوح منها رائحة الجسد المتعرق. جاء الخلاص بعد ان وهبه صاحب البذلة لمن يجيد استهلاكه, لينتقل الي أنامل شاعر يعشق الكتابة عن الحب والمشاعر علي نحو عفوي بسيط ينال استحسان الجميع. تعاون الشاعر والقلم علي كتابة اروع قصائد الغزل, إلا ان الزمن كان عجولا في سلب روح الشاعر مما أرغم القلم علي إعلان موته تضامنا مع فقيده, غير ان ما تعاونا علي كتابته ظل خالدا علي مدي اجيال, وشاع في المدينة وحقق شهرة عالية, وتناقله كل من دخل حضرة الحب, الامر الذي ارغم صاحب القلم الاساسي علي البكاء لفقدانه صديقه الشاعر والقلم معا... وقبل كل ذلك بكي ندما علي حياته التي لاتعرف الحب. إرهاب العشاق في حديقتي زهور ملونة بهية.. لكنها تأبي أن تفوح بعطورها وكإنها صنياعة. بحثت عن الخلل واعتقدت انه يكمن في التربة او عملية السقي. تجولت في العاصمة وبدأت استنشق من كل زهرة تمر علي نظري كنت متعطشا لتلك العطور غير أني أجد ما أتوق إليه. مر الوقت وعدت إلي حديقتي خائبا. جالست وردة الياسمين وأنا عالق في سماء من الحيرة, بقيت صامتا أمامها حتي قاطعت صمتي ومزقت حيرتي قائلة: هل تبحثون عن أريجنا, وكيف ترضون ان يشمه عشاق يقطفون رؤوسنا وينهون حياتنا من إجل إهدائها برومانسية باردة لمن يحبون؟ أي إرهاب تعشقون, وبموتنا كيف تعيشون, وبعد حياتنا ماذا تطلبون... لاتنتظروا عطورنا إلا وانتم مسالمون. فقدان.. عرفتها أحلامي قبل ان تنال صحوتي شرف ملاحقة ظلها الذي يبدو وكأنه رافد من نهر الجنة يروي ظمأ تعطشي للجمال. أشعر ان رابطا حميميا يجمعني وإياها. أسست معها لغة تعتمد غمزات العيون و إبتسامات الشفاه, وسرعان ماتحول العالم الي أحلام ملونة وحياة كالاريج علي الرغم من كل منغصاته. إلا أنني فقدتها مثلما فقدت أشياء عديدة.. فقدتها تماما عندما بادرت بنظرات متفحصة في أرجاء جسدها الذي شكل كونا من الانوثة. غير اني تحولت الي كتلة نارية لحظة تنبهت لخاتم الخطوبة يتلأ لأ بين أصابعها. ودونما وعي ولا إدراك سارعت الي سؤالها عن أسباب الخيانة. أجابتني بعد أن أدارت ظهرها مغادرة المكان: نظر اتي إليك كانت بداعي العطف والشفقة علي شبابك المتعثر خصوصا بعد ارتباطك بعكاز ينوب عن ساقك التي باتت جزءا من ركام الحرب الأخيرة. الربع الأخير تقاسم الجوع والفقر والجهل ثلاثة أرباع عمري, ولم يتبق من حياتي سوي الأيام الشاحبة.. لحظات اتوسل الزمن ان يطيلها, لا لتشبثي بالحياة ولا لأجل تعويض الخسارات والقضاء علي السلبيات وإنما لأوفر للذل فرصة السيطرة علي الربع الأخير من عمري. سكة القطار رميت علي سكة القطار عارية.. عارية ممزقة تماما, وكشفت اسرار جسدها الفاتن الي السماء, الي سكة الحديد التي تشكو الصدأ وتعانق الاشواك. كانت قد سلمت نفسها لمن أجاد إشعال كبريت عذريتها في المكان ذاته تحت وهم اسمه العاطفة, وتركها مع أكوام من الوعود, ورحل مع اول قطار الي حيث تجهل. ظلت تنتظر بصبر ولهفة ضجيج القطارات جيئة وذهابا, وما من خبر عمن غاب عنها, الامر الذي دعا الاشواك للطمع بملامسة جسدها الذي بدأ ينسجم مع صدأ الحديد, اسوة بمن مزقه من دون رحمة. مسرات هاربة بصلواتنا,بتوسلاتنا وتضرعاتنا, تمنينا البسمة ورجونا الرب ان يرفع عنا غمامة الاسي, بعدما صار الحزن زادنا وشرابنا.. في لحظات طربنا تغنينا بالمسرات علها تألفنا وتقترب منا.. علها تقبل ودنا وتصالحنا بعد خصام عميق ولدنا لنعيشه. بين الصلاة والدعاء والغناء والموسيقي طالبنا بالسعادة, غير إننا لم نجدها إلا في صور قديمة تجسد ابتسامات آبائنا القدماء. نهار حسب الله بغداد