ألبسوني بردة شفافة يوم الختان. ثم كان بدء تاريخ الهوان! شفت البردة عن سري, وفي بضع ثوان ذبحوا سري وسال الدم في حجري فقام الصوت من كل مكان ألف مبروك .. وعقبي للسان. في تلك القصيدة العجيبة لخص الشاعر مأساة عالمنا العربي, فعندما يكون المرء صغيرا, يتعرض لعملية الختان, يفرح الأهل ويتلقون التهاني, فقد أعدوا الوليد( كمعتقداتهم) لحياة جنسية آمنة. وحين يكبر الصغير فإنه يتعرض لعملية قطع اللسان حتي تكون حياته كلها المهنية والاجتماعية, وربما الجنسية أيضا آمنة. ويعتبر الأقارب والأحباب أن قطع اللسان ملازم للخروج من عالم الطفولة, فهو الدليل أن الوليد قد شب عن الطوق وأصبح بالغا, يمثل لسانه خطورة عليه, ويتوجب قطعه أو كبحه تجنبا للمشاكل وجنوحا للأمان. دعونا نختار ثلاثة أمثلة من عالمنا العربي تتعلق بقطع اللسان. * الأول لمؤلف القصيدة نفسه: أحمد مطر شاعر عراقي, نشأ في قرية التنومة الواقعة بإحدي نواحي شط العرب في البصرة. يصف قريته التي صبغت قصائده الأولي بالغزل والرومانسية, بأنها تنضح بساطة ورقة وطيبة, مطرزة بالأنهار والجداول والبساتين, وبيوت الطين والقصب, وأشجار النخيل. تفتحت عينا الصبي علي حقائق الحياة, وتكشفت له خفايا الصراع بين السلطة والشعب, فلم تطاوعه نفسه علي الصمت, ولا علي ارتداء ثياب العرس في المآتم, فدخل المعترك السياسي بإلقاء قصائد في الاحتفالات العامة مشحونة بقوة عالية من التحريض, تتمحور حول موقف المواطن من سلطة لا تتركه ليعيش إن لم يكبح لسانه, وهو لم يكبح لسانه, فطاردته السلطة. هاجر إلي الكويت في منتصف العشرينات من عمره, عمل مدرسا ابتدائيا في مدرسة خاصة, والتحق بجريدة القبس محررا ثقافيا, ومنها كانت انطلاقته الشعرية الانتحارية. عمل فيها مع الفنان ناجي العلي, فكانت القصيدة في الصفحة الأولي, بينما اللوحة في الصفحة الأخيرة. أثارت صور مطر الشعرية بكلماتها الصادقة الصادمة وإشاراتها الصريحة, كما أثارت رسومات العلي بخطوطها الساحرة الساخرة وتلميحاتها المعبرة حفيظة مختلف السلطات العربية, فترافق مطر والعلي من منفي إلي منفي, واستقرا في لندن حتي افترقا بفعل مسدس كاتم للصوت اغتال ناجي العلي, ليقضي بعده أحمد مطر الأعوام الطويلة في زاوية لافتات و حديقة الإنسان ومقالات في استراحة الجمعة في جريدة الراية القطرية, يعيش بعيدا عن الوطن, يصارع الحنين والمرض, ويجابه قوي الشر بقلمه, ولسانه الذي لم يقطعه أو يكبحه, ويكتب قصيدة الختان. * الثاني حمزة الخطيب طفل سوري من بلدة الجيزة في محافظة درعا, عمره13 عاما وبضعة شهور, يحب المدرسة وكرة القدم, خرج من بلدته مع والده وآخرين لفك الحصار عن أهل درعا الثائرة التي حاصرها نظام بشار الأسد. تم اعتقاله عند حاجز للأمن السوري قرب مساكن صيدا حيث كان يحمل علما سوريا صغيرا وعليه النجمات الثلاث. بعد مدة تم تسليم جثمانه لأهله, وبدت علي جسمه آثار تعذيب بشع, وجهه منتفخ, بنفسجي اللون, ورصاصات في ذراعيه اليمني واليسري وصدره, وكسر في رقبته. مثلوا بجثته حيث قطعوا عضوه التناسلي في جريمة يخجل منها إبليس نفسه. المحزن أنه لا يوجد حمزة واحد في سوريا, بل هناك المئات من حمزة, ويقدر عدد الأطفال الذين لقوا حتفهم في هذه التظاهرات حتي الآن بما يتجاوز الثلاثين طفلا. ابتدعت قوات الأمن السوري شيئا مخالفا للمتعارف عليه في بلادنا, فبدلا من قطع اللسان, قطعوا العضو التناسلي في تصرف أبعد ما يكون عن الفطرة الآدمية, بهدف التخويف والردع والإذلال. الشباب السوري قام بإنشاء صفحة باسم كلنا الشهيد حمزة علي الخطيب يستنكرون فيها هذا العمل الهمجي, ووصل عدد المشاركين في هذه الصفحة إلي أكثر من44000 خلال أقل من24 ساعة, من الرافضين لقطع الألسن أو كبحها, واحتشدت تظاهرات تحت عنوان جمعة أطفال الحرية, وانطلقت الألسن كلها هادرة يالله ارحل يا بشار. * الثالث إبراهيم قاشوش بلبل الثورة أو صوت حماه منشد الاحتجاجات الشعبية السورية التي تهتف بإسقاط النظام السوري, دأب علي قيادة المظاهرات, وتأليف الشعارات المناوئة للنظام السوري ورموزه, بمن فيهم الرئيس السوري شخصيا, قاشوش لم يمتلك حنجرة مطرب عذبة الصوت فحسب, وإنما كانت حنجرة شعب أراد الحياة. كان يخرج إلي الشوارع ليواجه الموت بصوته العالي. ألهب بغنائه الجماهير في ساحة العاصي في قلب حماة, وتحولت الشعارات التي أنشدها إلي أهازيج شعبية تعبر عن تطلعات المدينة المكلومة وشعب يعاني الظلم. اعتقل في خضم الحملة الأمنية التي نفذها الجيش السوري في أعقاب جمعة ارحل(1 يوليو2011) والتي احتشد فيها زهاء نصف مليون متظاهر في حماة حيث قامت قوات الأمن السورية بإسكاته. النظام لم يكتف بقطع اللسان, بل ذبح قاشوش من الوريد إلي الوريد, واقتلع حنجرته وألقي جثته في نهر العاصي. السؤال المذهل والذي يحيرني, لماذا سكتت كل الألسنة العربية عما يجري في سوريا, خمسة آلاف شهيد, وأضعافهم من الجرحي والمفقودين, هل كان يتخيل الشاعر في قصيدة الختان أن تقطع ألسنة العالم العربي كله وجامعته العربية ؟ لا أظن, فمازال الآلاف من محبي حمزة الخطيب وإبراهيم قاشوش يواجهون آلة القتل الجهنمية ويرددون: يا بشار يا جرثومة, أقوالك مانا مفهومة, أخبارك أخبار البومة ويلا ارحل يا بشار يا بشار مالك منا, خد ماهر وارحل عنا, وشرعيتك سقطت عنا ويلا ارحل يا بشار ويلا ارحل يا بشار