منذ بداية ثورة يناير وشعار الشعب يريد هو الشعار الملك, فالقوي السياسية دائما ما ترفع مطالبها اعتمادا علي شعار الشعب يريد, فهناك من جعل الشعار الشعب يريد إسقاط النظام. وهناك من جعله الشعب يريد العدالة ويريد الحد الأدني ويريد الدولة المدنية وهكذا حمل الشعار كل مطالب القوي السياسية, ومع تطور الأحداث خلال الشهور العشرة الماضية حدث ما يمكن تسميته انفصالا بين القوي السياسية والشعب في مجموعة. إذ لم يكن ممكنا في ظل حالة تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية ألا تكون تلك القضايا هي الهم الأساسي للشعب المصري والتي تعود لسنوات طويلة علي قدر يعتد به من الأمن والاستقرار, وكاد في السنوات الأخيرة يشهد تطورا اقتصاديا رغم ما كان يشوبه من مشكلات تتعلق بالأساس بعدم العدالة في توزيع عوائد ذلك التطور وبارتفاع مستوي الفساد الذي مثل مدخلا أساسيا لتحول الثروة إلي عدد محدود من رجال الأعمال والسياسيين. وقد عكست كل استطلاعات الرأي العام التي أجريناها في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام خلال الشهور الخمسة الأخيرة أن القضايا الاقتصادية واستعادة الأمن والاستقرار تأتي في مقدمة القضايا التي يري الرأي العام المصري أن علي الحكومة والمجلس الأعلي للقوات المسلحة أن توليها الأولوية الأولي بينما لم يشهد الرأي العام دعوات لمليونيات من أجل هذين الملفين. فائدة استطلاعات الرأي العام أنها الوسيلة الأفضل المتاحة لمعرفة ما يريده الشعب بالفعل. فعبر تلك الآلية يتحدث الرأي ويدلي برأيه ويعبر ما يريد بالفعل, وتبقي المشكلة الأساسية أنه علي الرغم من الثورة بكل ما يجب أن تحمله من تغيير, فإن النخبة السياسية لم تتغير بعد في النظر إلي الرأي العام. أي أن الثورة لم تصل بعد إلي النخبة, فالنخبة ثارت ضد النظام ولم تثر بعد علي نفسها. ومن ثم ظلت تلك النخبة كما النظام السابق ونخبته تتحدث باسم الشعب وتضع له الأجندة معتبرة دون الأخذ في الاعتبار رغبات الشعب الفعلية. ولا يعني ذلك إنكار أن أحد الأدوار الأساسية التي يجب أن تضطلع بها النخبة هو بلورة ما يسعي إليه الشعب وصياغته في صورة سياسات تعرض علي الرأي العام. باختصار فإن المشكلة الحالية هي انفصال النخبة عن الشعب وتخندقها في الغرف المغلقة, بعضها يطرح أفكارا والآخر يعترض عليها. يستغلون كل وسائل الإعلام لإيهام الجميع بأن ما يفكرون فيه هو ما يطلبه الرأي العام, بينما هو في الحقيقة ما يتصورون أن علي الرأي العام أن يتبناه باعتباره الطريق الصحيح, بل ومنهم من يري أن القضايا محل النقاش في المرحلة الراهنة هي قضايا إستراتيجية عليا لا يجب إخضاعها للرأي العام التي يجعل تفاصيل الكثير منها. خذ مثلا الموقف من المجلس الأعلي للقوات المسلحة. من يتابع وسائل الإعلام وصفحات الفيس بوك والتويتر لقادة الرأي العام وكوادر القوي السياسية يخرج بنتيجة أساسية مفادها عدم الترحيب بوجود المجلس الأعلي للقوات المسلحة وأن عليه العودة الآن قبل الغد إلي ثكناته وأنه يسوف ويستهلك الوقت للاستحواذ علي السلطة وأنه غير جاد في إنهاء المرحلة الانتقالية ومحاكمة رموز النظام السابق ومن ثم يتلكأ في إصدار قانون العزل السياسي. أما المتابع لاستطلاعات الرأي العام فيجد أن الرأي العام يثق بدرجة عالية للغاية لا تقل عن90% في المجلس العسكري وجديته في تنفيذ المهام الموكلة إليه. مثال آخر هو موقف القوي السياسية والنخبة من ملف الدين والقوي الإسلامية. فهناك انزعاج واضح لدي القوي السياسية وتيارات عديدة بين النخبة من احتمال فوز الإسلاميين باعتبار أن ذلك ضد هدف إقامة الدولة المدنية الديمقراطية, دونما الالتفات إلي حقيقة تجذر الدين في الثقافة المصرية. فالمصريون منقسمون بالتساوي تقريبا من حيث تفضيلهم لشكل الدولة بين الدولة المدنية والدولة الدينية, ويفضل ما لا يقل عن60% البرامج السياسية التي تركز علي كل من الدين والعدالة الاجتماعية. وتشير الاستطلاعات إلي أن حزب الإخوان المسلمين يأتي في مقدمة الأحزاب المفضلة لدي المصريين يليه حزب الوفد ثم حزب النور. باختصار يسعي المصريون إلي من يقدم برنامجا أو وصفة توفق بين الدين والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بينما تصر النخبة والقوي السياسية علي التعارض بين الدين والديمقراطية, وهو الأمر الذي يبدو أنه يدفع الرأي في اتجاه تفضيل الأحزاب الإسلامية التي تتواجد بكثافة في الشارع المصري معتمدة علي مكانة الدين لدي المصريين, بينما الأحزاب الأخري والقوي السياسية مشغولة بالمعارك الفكرية والسياسية. صوت المصريين سيذهب في النهاية للموجودين بينهم لمن يسعون لحماية رأيهم الذي عبروا عنه في استفتاء مارس الماضي, ولن يذهب بحال للقابعين في استديوهات القنوات الفضائية. فلتستمعوا لصوت الرأي العام قبل أن ينصرف كلية عن منجزات الثورة. وكل عام ومصر الحبيبة بخير.