ي محاضرته الشهيرة السياسة كمهنة أثناء الثورة الألمانية عام1919 رسم عالم الاجتماع والاقتصاد الماني الشهير ماكس فيبر ملامح الدولة الحديثة والحياة السياسية الديمقراطية ودور السياسيين في هذه المنظومة فليس فقط في ألمانيا الحديثة بل في كل دول العالم التي تحررت أو تسعي للتحرر من النظم الاستبدادية والاستعمارية. لقد رأي فيبر أن السياسة هي فن التسويات واتخاذ القرارات التي تصب في صالح المجتمع واعتبر السياسة مهنة يجب أن يعيش لها السياسي ويتكسب منها ورأي أن السياسي الحق هو من تتحقق فيه ثلاثة شروط: الأول شغفه بالنشاط السياسي والثاني هو الشعور بالمسئولية والثالث هو التمييز بمعني القدرة غلي تحديد الأولويات وما يجب فعله أو قوله. لقد اتخذت أوروبا من هذه المحاضرة القيمة وما حوته من أفكار سياسية واجتماعية نموذجا جري تطبيقه حتي عصرنا هذا, فالنظم السياسية الأوروبية قائمة علي الأحزاب ذات الفاعلية في المجتمع, وأغلب الساسة الأوروبيين أشخاص احترفوا السياسة كمهنة يعيشون بالفعل منها ولها, فالسياسيون يبنون مستقبلهم منذ شبابهم داخل أحزابهم متدرجين في المناصب الحزبية بناء علي قاعدة شعبية وجماهيرية,.فهم موظفون لدي أحزابهم, ونواب البرلمان عليهم أيضا التفرغ لعملهم حتي لو لم ينتموا لحزب مقابل مرتب شهري من أموال دافعي الضرائب, ففي ألمانيا مثلا يبلغ مرتب نائب البرلمان حوالي ثمانية آلاف يورو. إننا في مصر علي أبواب انتخابات مجلس الشعب حيث الكثير من الترشيحات التي سوف يحتار معها الناخب وللأسف لم نناقش بعد ما هو شكل السياسي في مجتمعنا بعد ثورة يناير. هل هو رجل الأعمال الذي لا يزال يمارس أعماله متخذا من السياسة وسيلة لخدمة مهنته الأصلية, أم هو الاقطاعي ذو العزوة والنفوذ المعتمد علي العصبية والقبلية أم هو الأكاديمي الذي ظن أن لقبه العلمي كاف لتقلد المناصب السياسية أم هو الثوري الذي يحسب أن حماسه هو مؤهله لكي يتبوأ المنابر السياسية أم هو رجل الدين الذي اعتقد أن تدين المصريين سيدفعهم لاختياره. قد نتجادل حول هذا كله متفقين أو مختلفين فهذا شيء مهم ولكن الأهم أنه بالمناقشة سوف نكون قادرين علي الاختيار بشكل أفضل. إن في أوروبا وحتي في تركيا التي ينبهر بها البعض الآن لا يقفز شباب السياسيين ولا محدثو السياسة علي الانتخابات الكبيرة كالبرلمان أو الرئاسة, بل البداية دائما في العمل الحزبي الجاد ثم المنافسة والأداء في المحليات وحين تثبت الكفاءة تكون الخطوة التالية في برلمان الولاية أو المحافظة ثم منصب حاكم الولاية أوالمحافظ ثم برلمان الدولة والمناصب القيادية. هذا هو المسار الذي تكون فيه السياسة مهنة وهو ما سار فيه أردوغان في تركيا وساركوزي في فرنسا علي سبيل المثل. وهو النموذج الذي نتمني أن نطبقه بعد الثورة حتي يتم تحديد الكفاءات مسبقا عن يقين وتجربة. أتمني أن نراعي هذه الأمور في انتخابات مجلس الشعب التي هي علي الأبواب قدر الإمكان وألا تشغلنا مسألة الفلول عن غيرها من الأمور وآمل أن يكون هذا الموضوع محل نقاش في الحياة السياسية وأن يتبنانها السياسيون في مصر لاحقا, فمثل هذه التصورات يتم عادة تطبيقها بناء علي عرف أصبح سائدا دون نص قانوني أو دستوري. وإذا اقتنعنا بتلك التصورات وعزمنا علي تطبيقها فعلينا إعادة النظر في عدة أمور منها تخصيص رواتب للسياسيين الحزبيين والجاديين في خدمة مجتمعهم, فالعاملون علي الزكاة لهم أجر منها, وعلينا كذلك النظر في نظام المحليات وتشكيل أو تفعيل مجالس المحافظات وانتخاب المحافظين بدلا من تعيينهم, فكل هذا ضروري ليس فقط لإعداد الكوادر والكفاءات الحزبية بل لاختبار الأحزاب والسياسيين علي نطاق صغير قبل اللعب في الملعب السياسي الكبير, فلا نريد أن ننتخب سمكا في ماء بعد الآن.